هندسة الذوق: اقتصاد الرمز: كيف تحوّل السوق إلى صانع للهوية

حين يُستبدل الطعم بالرمز

في السوق الحديثة، لم يعُد البيع مقصورًا على الأشياء، بل على المعاني.
لم يعُد المنتج يُسوّق بوصفه سلعةً، بل بوصفه رمزًا لمعنى أكبر: الانتماء، الرقي، الحداثة، أو حتى «الوعي».
لقد انتقل الاقتصاد من مرحلة بيع الحاجة إلى مرحلة بيع الهوية، ومن تلبية الرغبة إلى صناعة الرغبة نفسها.
صار الإنسان لا يشتري القهوة، بل يشتري «من يكون» حين يشربها.

الرمز كعملة جديدة

في هذا الاقتصاد الرمزي، لم تعُد القيمة تُحدَّد بالمادة، بل بالدلالة.
الرمز هو السلعة الحقيقية، والمنتج مجرد وسيلة لحملها.
القميص الذي يحمل شعارًا عالميًا لا يُباع لأنه أفضل جودة، بل لأنه يحمل «هالة» المعنى الذي صُنع حوله.
العلامة التجارية أصبحت نوعًا من الدين المدني، تُمنح من خلالها الطمأنينة والانتماء، وتُرسم عبرها حدود «الذوق المقبول» و«الرداءة المرفوضة».

إنها ليست مجرد علامة، بل نظام إيمانٍ جديد، حيث يصبح المستهلك مؤمنًا لا زبونًا، ويغدو فعل الشراء نوعًا من الطقس الرمزي الذي يمنحه شعورًا بالتحقق الذاتي.

من الطعم إلى الإيمان

الإعلانات الحديثة لا تبيعك الطعم، بل «توق المعنى».
تقول لك: «اشرب هذه القهوة لتصبح أكثر صفاءً»، «اقتني هذا الهاتف لتصبح أكثر تفرّدًا»، «استخدم هذا العطر لتصبح نفسك الحقيقية».
كل إعلان هو وعد بالخلاص في عالم بلا خلاص.
كل منتج يَعِد بأن يمنحك شيئًا روحيًا مفقودًا: ثقة، حبًّا، توازنًا، هوية.

وهكذا يُعاد تعريف الذوق بوصفه إيمانًا لا تجربة.
لم يعُد التذوّق فعلاً حسّيًا بل طقسًا رمزيًا، يُعيد الإنسان فيه طمأنينةً مؤقتة عبر منتجٍ جديد.
إننا نعيش في زمنٍ يشتري فيه الناس «الإحساس بأنهم يملكون إحساسًا».

السوق كمعمل لإنتاج المعاني

كل شركة كبرى اليوم تُشبه مؤسسة دينية معاصرة: لها طقوسها، ألوانها المقدسة، رموزها، وأناشيدها الإعلانية.
ولها أيضًا جمهورها المخلص الذي يدافع عنها كما لو كانت عقيدة.
لقد صارت السوق معملًا لإنتاج الرموز الجماعية، حيث تُصنع المعاني في غرف الاجتماعات لا في ضمير الإنسان.

تعمل العلامة التجارية على هندسة العاطفة، بحيث تُقنعك أن المعنى خارجك، وأن استكمالك الشخصي لا يتحقق إلا عبرها.
وبذلك، تتحول «الثقة» إلى رأس مال، و«الخيال الجمعي» إلى سلعة.
تُصبح المشاعر، مثل المنتجات، قابلة للتعبئة والتغليف والبيع.

الإنسان الرمزي: مستهلك المعنى

الإنسان الحديث لم يعُد يستهلك الأشياء، بل يستهلك الرموز التي تلتصق بها.
لا يشتري ساعة لقياس الوقت، بل لقياس مكانته.
لا يختار طعامًا ليأكل، بل ليُعرّف نفسه أمام الآخرين.
كل عملية شراء أصبحت نوعًا من اللغة الاجتماعية التي يتحدث بها الأفراد دون أن يتكلموا.

لكن المفارقة أن هذا الإنسان الرمزي يعيش فراغًا متزايدًا كلما ازداد استهلاكه للمعنى الجاهز.
فالمعنى الذي يُشترى لا يُشبِع، والمعنى الذي يُنتَج في الداخل وحده يُنقِذ.
لقد تحوّل الامتلاء بالرموز إلى نوعٍ جديد من الجوع، جوعٍ إلى ما لا يمكن شراؤه.

العلامة بوصفها هوية مصنّعة

في ثقافة السوق، لم تعد الهوية رحلة اكتشاف، بل منتجًا نهائيًا يُقدَّم على رفٍّ أنيق.
كل إنسان يُمنَح مجموعة رموز جاهزة ليعبّر بها عن ذاته، فيختار من بينها ما يناسب «ذوقه»، دون أن يدرك أن الذوق نفسه قد صُنِع له مسبقًا.
وهكذا تتماهى الهويات الفردية مع هوية السوق الكبرى، وتُختزل الذات إلى «ملف تفضيلات» قابل للقراءة التسويقية.

حتى التمرّد أصبح رمزًا تجاريًا يُباع،
حتى البساطة أصبحت أسلوب حياة فاخرًا يُسوَّق على أنها “Minimalism”
وحتى الزهد أصبح سلعة تُقدَّم في عبوة أنيقة مكتوب عليها “Organic”.

نهاية المعنى: حين يُستبدل الرمز بالحقيقة

النتيجة النهائية لهذا الاقتصاد الرمزي هي إفقار الوعي.
فحين تصبح كل قيمة شعارًا، وكل طعم علامة، وكل معنى حملة إعلانية، يفقد الإنسان قدرته على التمييز بين الحقيقة والتمثيل.
إنه يعيش داخل متحف من الرموز التي تحاكي المعنى دون أن تحمله.
في النهاية، لا يبقى سوى المظهر، يلمع أكثر كلما فرغ أكثر.

لقد دخلنا عصر «الوفرة الفارغة»، حيث يمكن أن تشتري أي شيء إلا الأصالة، لأن الأصالة نفسها أصبحت شعارًا من شعارات السوق.

خاتمة: إنقاذ الذوق من الرمز

قد لا يكون الخلاص في الرفض، بل في الاستعادة.
أن نستعيد القدرة على الذوق الحرّ، والاختيار الصادق، والمعنى الذي لا يُشترى.
أن نُعيد للحواس استقلالها من الدعاية، وللرمز مكانه الطبيعي كأداة تعبير لا كبديل عن الحقيقة.
فالمعنى، في جوهره، ليس ما نملكه بل ما نُنتجه في وعينا،
وما لم يُستردّ هذا الوعي، سيبقى الإنسان مجرّد مرآة تعكس رموز السوق دون أن ترى وجهها الحقيقي.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.