
لكن خلف هذه الصورة اللامعة، يكمن منطقٌ أعمق من مجرّد التفاخر التقني. إنّ الاستعراض العسكري التركي ليس عرضًا تجميليًا، بل استراتيجية سياسية موجهة، تُستخدم كأداةٍ لصنع الهيبة، ولإعادة تعريف موقع تركيا في عالمٍ يتغيّر بسرعة.
أولاً: القوة كعلاجٍ للضعف الداخلي
تعيش تركيا منذ سنوات تحت ضغط اقتصادي متواصل، وتذبذب في سعر عملتها، وتحدياتٍ اجتماعيةٍ ناتجة عن الاستقطاب السياسي والتضخم. في مثل هذه الظروف، تصبح الإنجازات العسكرية وسيلةً نفسية لتعويض الفشل الاقتصادي، ولتغذية الوعي الجمعي بفكرة “النهضة الوطنية”.
حين تُعرض المسيّرة “بيرقدار” على أنها إنجاز الأمة كلها، لا على أنها مشروع شركة، فإن السلطة تُحوّل الصناعة العسكرية إلى رمزٍ موحِّد تتجمع حوله المشاعر القومية، تمامًا كما فعلت قوى كبرى في مراحل أزماتها.
النتيجة أن الخطاب العسكري لا يهدف فقط إلى التسلح، بل إلى صناعة التماسك السياسي حين تتفكك بقية مصادر الثقة الداخلية.
ثانيًا: الردع بالرمز قبل الردع بالسلاح
في الجغرافيا المعقّدة التي تقع فيها تركيا، لا يكفي امتلاك السلاح، بل يجب أن تُقنع الخصوم أنك قادر على استخدامه بثقة واستقلال. ولهذا تتفنّن أنقرة في الإعلان المتكرر عن مشاريعها العسكرية حتى قبل دخولها الخدمة.
المسيرات، الطائرات المقاتلة “قآن”، السفن، وحتى الصواريخ المحلية، تُعلن بمواصفاتٍ وصورٍ وتغطياتٍ إعلامية مكثفة. الهدف ليس أن يخاف الخصم من السلاح ذاته، بل من القدرة على تطويره.
هنا نرى أن تركيا تمارس “الردع الإعلامي” — فهي لا تسعى إلى الحرب، بل إلى خلق وعيٍ بأنّ الحرب معها مكلفة، وهو شكلٌ من الردع النفسي المتقدم الذي تلجأ إليه الدول الصاعدة حين لا تملك بعدُ تفوقًا كاملاً.
ثالثًا: السياسة الخارجية عبر بوابة الصناعات الدفاعية
الاستعراض العسكري التركي يحمل بعدًا اقتصاديًا وجيوسياسيًا في الوقت نفسه. فأنقرة تدرك أن من يصدّر السلاح يصدّر النفوذ.
لقد تحوّلت المسيّرات التركية إلى أدوات دبلوماسية فعّالة في آسيا الوسطى وأفريقيا وأوروبا الشرقية، وأصبح تصديرها جزءًا من شبكة النفوذ التركي الجديدة.
الإعلان المكثف عن هذه الصناعات، مصحوبًا بمقاطع دعائية ومشاهد سينمائية، يهدف إلى تسويق تركيا كقوةٍ منتجةٍ لا تابعة، وكخيارٍ بديل للدول الباحثة عن تسليحٍ خارج الهيمنة الغربية.
إنها سياسة “الهيبة الصناعية” التي تجعل من كل صفقة تسليحٍ إشارةً سياسية إلى تحوّل موازين القوى.
رابعًا: من الدولة التابعة إلى الدولة النموذج
منذ عقودٍ كانت تركيا تتلقى السلاح من الغرب وتدفع ثمنه سياسيًا. أمّا اليوم فهي تحاول عكس المعادلة: أن تُنتج سلاحها بنفسها، وأن تفرض شروطها على من يريد شراءه.
هذا التحوّل الرمزي من “المستورِد” إلى “المصنِّع” هو جوهر السياسة التركية في عصر أردوغان، ويُسوَّق داخليًا كتحرّرٍ من التبعية الغربية.
الاستعراض إذًا ليس مجرّد دعاية، بل إعلان عن استقلال الإرادة، ورسالة بأنّ تركيا تملك قرارها الأمني، ولن تكون رهينةً لحلفٍ أو محورٍ كما كانت في السابق.
هذه الرسالة تجد صداها لدى شرائح واسعة من الأتراك، ممن يرون في كل تجربة صاروخ أو طائرةٍ “استعادةً للكرامة الوطنية” أكثر منها إنجازًا تقنيًا باردًا.
خامسًا: معركة الصورة في الإعلام العالمي
تدرك أنقرة أنّ من يتحكم في الصورة يملك نصف القوة. ولهذا تستثمر بذكاءٍ في إخراجٍ بصريٍ مدروسٍ لكل إنجازٍ عسكري.
المشاهد المصوّرة تُصمَّم بروحٍ ملحمية، والموسيقى الخلفية تُذكّر بأفلام النصر القومي، بينما الخطاب المصاحب يربط الإنجاز العسكري بالهوية الحضارية.
الهدف: خلق سردية مضادة للسردية الغربية التي طالما قدّمت تركيا كعضوٍ ثانوي في الناتو أو كدولةٍ متقلبة.
بهذا الأسلوب تحاول أنقرة إعادة تعريف نفسها أمام الرأي العام العالمي: لا بوصفها تابعًا للغرب، ولا خصمًا له، بل قوةً مستقلة تتكلم بلغةٍ جديدة.
سادسًا: التناقض بين الهيبة والواقع
ومع ذلك، يبقى السؤال النقدي قائمًا: هل تتناسب الصورة التي تبنيها تركيا مع قدراتها الفعلية؟
الواقع يشير إلى أن كثيرًا من مشاريعها لا تزال في طور التجريب، وأن بعض الإنجازات العسكرية، رغم واقعيتها التقنية، مضخَّمة إعلاميًا بما يتجاوز أثرها الاستراتيجي الحقيقي.
فالقوة العسكرية ليست فقط إنتاجًا تقنيًا، بل منظومة متكاملة من التمويل، والإمداد، والابتكار، والتحالفات. وفي هذه الجوانب ما زالت تركيا تعتمد على الخارج، سواء في المكوّنات الإلكترونية أو في شبكات التمويل.
لكنّ أنقرة تراهن على الزمن: أن تتحوّل هذه الرمزية المعلنة اليوم إلى قوةٍ حقيقية غدًا، كما فعلت دولٌ أخرى بنت هيبتها بالصورة أولاً، ثم بالواقع لاحقًا.
سابعًا: الهيبة كبديلٍ عن الحرب
في ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة، تُدرك تركيا أن بناء الهيبة قد يغنيها عن خوض المعارك.
فحين يراك الخصوم قويًا ومستقلًا ومتصاعدًا، قد يتجنبون الصدام معك أصلًا.
من هنا يمكن قراءة الاستعراض العسكري التركي كجزء من استراتيجية الردع بالهيبة: أن تجعل الآخرين يُعيدون حساباتهم دون أن تطلق رصاصة.
وهذا منطق الدول الطامحة إلى التوازن لا إلى المغامرة، وإن بدا المشهد الخارجي أحيانًا مفعمًا بالاستفزاز والمبالغة.
خاتمة
الاستعراض العسكري التركي إذًا ليس عرضًا للعضلات بقدر ما هو عرضٌ للهوية.
إنه إعلانٌ متكرر بأنّ تركيا لم تعد تقبل أن تُرى كدولةٍ هامشية في النظام الدولي، بل كقوةٍ تتحدث لغتها الخاصة وتفرض حضورها بالرمز قبل الفعل.
ومهما تباينت الآراء حول صدقية هذه القوة أو مبالغتها، فإن المؤكد أنّ أنقرة أتقنت لعبة الصورة في عصرٍ تُصنع فيه النفوذات بالكاميرات بقدر ما تُصنع بالمدافع.
في زمن التغيرات الجيوسياسية، لم تعد الهيبة نتيجةً للقوة، بل أصبحت هي نفسها أحد أشكال القوة — وتركيا تدرك ذلك تمامًا.