هندسة الذوق: الإنسان عديم الطعم: حين تذوب الذات في النكهات المصنّعة

في نهاية رحلة طويلة من ترويض الحواس وتطبيع الأذواق، يقف الإنسان المعاصر أمام نفسه ليكتشف أنه فقد آخر ما تبقّى له من حريته: القدرة على التذوّق. لم تعد الحاسة وسيلة معرفة بالعالم، بل وسيلة استهلاك له. لم تعد اللذة تجربة، بل استجابة مشروطة. وهكذا وُلد إنسان جديد بلا طعم، بلا ذائقة أصيلة، بلا حسّ يتجاوز ما يُقدَّم له جاهزًا في عبوة، أو إعلان، أو قائمة توصيات رقمية.

إنه الإنسان الذي لا يعرف ما يحب، بل يعرف فقط ما يُقال له إن عليه أن يحبّه.

نكهات بلا حياة

لقد بلغت الصناعة الحديثة مرحلة لم تعد تبيع فيها الطعام أو الشراب، بل الطعم نفسه. تُصنع النكهة في مختبر وتُنسَج لتستدعي إحساسًا مبرمجًا في الدماغ، بحيث يُختزل الذوق إلى معادلة كيميائية.
ومع الوقت، بدأ الإنسان يعتاد على هذا التناسق المصطنع؛ صار يرفض الطعم الطبيعي لأنه غير “متقن بما يكفي”، تمامًا كما يرفض الصورة غير المُفلترة لأنها “غير مثالية”.
في هذه اللحظة، يفقد الذوق معناه: فالحواس لم تعد تتصل بالعالم الحقيقي، بل بتمثيله المصنع.

الحاسة المنزوعة الجذر

الطعم في أصله لغةٌ من لغات العلاقة بالعالم — علاقة تربط بين الجسد والمكان، بين الذاكرة والمادة.
لكن حين تُنتزع الحاسة من جذورها الثقافية والبيئية، تفقد ذاكرتها.
إن الطعم ليس مجرد إحساس على اللسان، بل سجلٌ لتاريخٍ كامل من الخبرات والروائح والرموز.
لذلك، حين تُنتج النكهات في مصانع معزولة عن التربة واليد والرائحة والوقت، فإنها تُنتج طعامًا بلا ذاكرة، وإنسانًا بلا جذور.
الإنسان عديم الطعم هو الإنسان الذي يعيش بلا سياق، بلا إحساس بالزمن أو المكان، لأن حواسه نفسها أصبحت منفصلة عن أصلها.

موت الذائقة وبداية المحاكاة

تُقاس اليوم اللذة بالكمية لا بالنوعية، بالتكرار لا بالدهشة.
كل شيء يُعاد تقديمه بطريقة تضمن أقصى استهلاك وأقل مقاومة حسية.
لم يعد الطعم يُدهش، بل يُطمئن: يُطمئن المستهلك بأنه داخل النسق الصحيح، ضمن “ما يحبّه الجميع”.
وهنا يحدث التحوّل الأخطر:
من تذوّق التجربة إلى تذوّق المحاكاة.
فما نتذوقه ليس قهوة ولا شوكولاتة ولا طعامًا، بل صورةً مسبقة عن “اللذة” و”الترف” و”الاختيار الجيد”.
حتى حين نبحث عن الأصالة، نفعل ذلك داخل قوالبها التسويقية الجاهزة.

الإنسان الذي لا يعرف ماذا يريد

في خضم هذا التشويش الحسي، يصبح الإنسان عاجزًا عن الرغبة الحقيقية.
فما الفرق بين “ما أشتهيه” و”ما أُلقّن أن أشتاق إليه”؟
إن الفارق بين الحرية والتلقين لم يعد في السلوك بل في الإحساس ذاته.
الذوق أصبح ميدانًا للبرمجة النفسية التي تمحو التمييز بين الحاجة والرغبة.
وحين تُلغى هذه المسافة، يُلغى الإنسان بوصفه كائنًا يختار — فيتحوّل إلى كائن يتجاوب فقط.
كل ضغطة، وكل مشهد، وكل تذوّق، هو استجابة مخطط لها مسبقًا.

اغتراب الحواس

في المجتمعات القديمة، كانت اللذة مرتبطة بالمشاركة والطقس واللحظة؛ كان الطعام حدثًا اجتماعيًا وجماليًا في آن.
أما اليوم، فقد فقدت الحواس صلتها بالمعنى.
يأكل الإنسان أمام الشاشة، يشرب وهو يكتب، يسمع الموسيقى بلا إنصات، يرى دون أن ينظر.
لقد انفصلت الحواس عن الوجود وصارت تسبح في فضاء صناعي محايد.
وهكذا تلاشت التجربة الجمالية في طوفان من الصور والروائح والطعم الموحّد.
صار كل شيء يُشبه كل شيء، وكل الناس يتذوقون الشيء نفسه.

الجمال كصدى فارغ

حين تفقد الحواس صدقها، يصبح الجمال نفسه محاكاة لجمال آخر.
فما يُعجبنا في النهاية ليس الشيء ذاته، بل المعنى الاجتماعي الذي يحمله.
نقول عن طعام ما إنه “راقي” لأننا تعلمنا أن نربط طعمه بمكانته الرمزية.
الجمال لم يعد تجربة وجدانية، بل عملية تصنيف اجتماعي.
كل حاسة خاضعة لمنظومة ذوقية عالمية تفرضها الشركات عبر الإعلانات والثقافة الشعبية.
وهكذا يُختزل الجمال في وظيفته السوقية: ما يُباع أكثر هو ما يُعتبر أجمل.

ما بعد فقدان الطعم

حين يصل الإنسان إلى هذه المرحلة، يصبح “عديم الطعم” بالمعنى الوجودي لا الحسي.
فهو لم يفقد الذوق فحسب، بل فقد معيار التمييز، أي القدرة على الحكم.
لا يعرف لماذا يحب ما يحب، ولا كيف يختار، ولا ماذا يعني أن يرفض.
يعيش في انسجام تام مع النظام الذي يبرمج رغباته،
لكنه في العمق يعيش فراغًا حسيًا هائلًا،
كمن يسمع ضجيجًا بلا موسيقى، ويشم رائحة بلا ذاكرة، ويتذوق لذة بلا حضور.

محاولة استعادة الطعم

وربما لا تبدأ مقاومة هذا العالم من السياسة أو الاقتصاد، بل من الفعل الصغير الذي يُعيد الإنسان إلى نفسه:
أن تتذوق بعفوية، أن تختار طعامًا من تربة تعرفها، أن تُصغي للمذاق لا للعلامة،
أن تُعيد للحواس حقها في الخطأ، في المفاجأة، في الاكتشاف.
فالحرية لا تُولد من الرفض الصاخب، بل من الوعي الصامت الذي يُعيد الإنسان إلى إحساسه الأصلي بالعالم.
إن استعادة الذوق الحقيقي ليست فعل رفاهية، بل فعل تحرّر: أن تتذوق لتعرف، لا لتطيع.

الخاتمة

بهذا المعنى، لا تنتهي رحلة "هندسة الذوق" إلا بالعودة إلى نقطة البداية:
الذوق بوصفه لغة وجودية، لا مجرد تفاعل كيميائي أو ترف اجتماعي.
فحين تُستعاد الحواس إلى مكانها الطبيعي، تُستعاد الذات أيضًا.
أما الإنسان عديم الطعم، فهو صورة العصر: مكتفٍ، ممتلئ، لكنه فارغ.
يعيش داخل نكهات كثيرة، دون أن يتذوق شيئًا حقًا.

سلسلة: هندسة الذوق: الحواس في زمن السوق

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.