مدغشقر: على مفترق الطوارئ: تفكيك الأزمة، مقارنة ونماذج معرضة للخطر

ما حدث في مدغشقر في خريف 2025 لم يكن انفجارًا عابرًا لمطالب معيشية فحسب، بل مؤشرًا على هشاشة منظومات حكمٍ لم تعد قادرة على تحويل الموارد العامة إلى خدمات. شرارة انقطاع الماء والكهرباء التقت بغضب شبابي وطبقة حاكمة مستهلكة، فتحولت أزمة تقنية إلى أزمة شرعية. لفهم هذا التحول لا يكفي تتبّع الوقائع اللحظية، بل لا بد من تفكيك البنية السياسية والاقتصادية التي تولّد مثل هذه الانفجارات.

الشرارة: أزمة خدمات أم فشل بنيوي؟

المشهد السطحي يروّج لفكرة بسيطة: انقطاع كهرباء وماء أثار احتجاجات. لكن القراءة المتأنية تُظهر أن هذه الانقطاعات كانت مجرد مقدّمات، ليست أسبابًا منفصلة. فروق الأداء في شبكات الكهرباء والمياه هي نتيجة لفساد إداري ممتد، استثمارات متعثّرة، وتخطيط اقتصادي يُغفل صيانة البنية التحتية. عندما تتحوّل الخدمات الأساسية إلى سلعة منقوصة، يتبدّل عقد العلاقة بين الدولة والمواطن: من مواطن خاضع إلى شعب يطالب بالكرامة.

الشارع والجيش: متى يتحوّل الاحتجاج إلى أزمة سلطة؟

التحوّل الحاسم في مدغشقر كان انشقاق وحدة عسكرية عن ولائها للحكومة. هذا السؤال — لماذا تنشق وحدات عسكرية — يفضح هشاشة الشرعية المدنية: الجيش في دول هشة لا يصون فقط الحدود، بل يضمن استمرار الامتيازات. عندما تفقد الدولة شرعيتها الخدمية، يصبح الانشقاق العسكري خيارًا للاعبين الذين يرون في التدخّل وسيلة لحماية مصالحهم أو إعادة توزيع المكاسب. هنا تكمن نقطة التحول من احتجاج اجتماعي إلى صراع على السلطة.

مقارنات موجزة: نيبال وبنغلاديش — تشابكات متشابهة واختلافات جوهرية

  • التشابه: في النماذج الثلاثة، نجد شبابًا سريع التنظيم عبر المنصات الرقمية، فسحًا للفساد، واعتمادًا على اقتصادات هشة. في كل حالة، تتفاعل أزمة معيشية مع قنوات سياسية مسدودة.

  • الاختلاف: بنغلاديش أظهرت قدرة الدولة على ضبط الشارع عبر أدوات إدارية وقمع منظّم دون الوصول إلى تفكك مؤسسي كامل؛ أما نيبال، فمضت في دورات انقلابية وتحولات سياسية طويلة قبل أن تلمع فيها لحظات الاحتقان الشبابي. ما ميز مدغشقر هو السرعة النسبية لانهيار قدرة الدولة على السيطرة واندفاع وحدات من المؤسسة العسكرية إلى طرف المعارضة.

الفساد والطبقة الحاكمة: جوهر المشكلة

الطبقة الحاكمة في هذه الدول تعمل كدائرة مفرغة: تُستنزَف الموارد العامة عبر عقود وتعيينات على أساس الولاءات، ثم تُستخدم الأعذار الفنية للتغطية. الفساد ليس اضطرابًا ثانويًا بل أداة إنتاج للسلطة. كما أن الوصاية الخارجية — أي نظام علاقات يعتمد على دعم جهات دولية وإقليمية — تمنح الطبقات الفاسدة هامش تحرّكٍ أكبر لأن الاستقرار الشكلاني أحيانًا يعوّض عن المحاسبة الحقيقية.

خريطة الخطر: أي الدول مهددة بتكرار سيناريو مدغشقر؟

بناءً على معايير الهشاشة المالية، اعتماد الاقتصاد على مورد واحد أو مساعدات خارجية، ارتفاع بطالة الشباب، وانقسام ولاءات الأمن: تبرز مجموعات جغرافية معرّضة للخطر:

  • ساحل وغرب أفريقيا (سيراليون، ليبيريا): انهيار المؤسّسات، عقود من الفساد، وتعرّض شديد لصدمات الغذاء والطاقة.

  • بعض دول آسيا الجنوبية والجنوب الشرقي: مناطق في ميانمار وكمبوديا حيث القمع السياسي والاقتصاد الهش يخلقان أرضًا خصبة للاحتقان.

  • بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "الخط الرمادي" (تونس، لبنان، الأردن): تراكم أزمات اقتصادية قد يعيد سيناريو 2011 في حال فشل النخب في الإصلاح.

هذه الخريطة ليست حتمية لكنها مؤشر احتمال يزداد مع أي صدمة خارجية (طعام، طاقة، أو قروض دولية مجمدة).

آليات الوقاية: سياسات عملية لا شعارات

أُدرج هنا ثلاثة تدابير قابلة للتطبيق فورًا لوادعى صانعو القرار النوايا الحقيقية للإصلاح:

  1. تحرير إدارة الخدمات من المحاصصة: إنشاء هيئات تشغيل مستقلة، مُلزَمة بمعايير أداء شفافة وقابلة للمساءلة.

  2. قواعد محاسبة مالية حقيقية: ربط أي قروض أو منح بمشروعات قابلة للتحقق عمليًا، مع آليات رقابة محلية مستقلة.

  3. فصل واضح لمهام الأمن عن السياسة: إصلاح قيادات السلاح بحيث تُحال القرارات السياسية إلى هياكل مدنية ورقابية، مع تدريب عسكري مدني على الحياد المؤسسي.

خلاصة نقدية

أزمة مدغشقر نموذج مبكّر لاختبار قدرة الدول الهشة على التحوّل من إدارة البقاء إلى إدارة الدولة. إن لم تُعد النخب الحاكمة العقد الاجتماعي — عبر خدمات فعلية، محاسبة جذرية، وإخراج الجيش من لعبة المحاصصة — فإننا سنشهد موجات متكررة من الانفجارات الاجتماعية التي لن تؤدي بالضرورة إلى ديمقراطية أفضل، بل قد تفتح بابًا أمام أشكال جديدة من الاستبداد العسكري أو وصاية خارجية متشددة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.