آسيا-المحيط الهادئ: صعود التوازنات الجديدة وعودة واشنطن المأزومة

لم تكن زيارة دونالد ترامب إلى كوالالمبور لحضور قمة الآسيان حدثًا بروتوكوليًا عابرًا، بل تجلّيًا لتحوّل عميق في الجغرافيا السياسية لمنطقة آسيا–المحيط الهادئ. فالمنطقة التي كانت لعقود مسرحًا لصعود الصين، وموطئ أقدام لسياسة الانكماش الأميركية، تشهد اليوم استدارة استراتيجية أميركية متوترة، تحاول واشنطن عبرها أن تعيد تموضعها في قلب المعادلة الجيوسياسية، بعد أن وجدت نفسها محاصرة بين صعود آسيوي متسارع وتراجع داخلي يهدد شرعيتها الدولية.

من "الاحتواء" إلى "العودة": تحوّل البوصلة الأميركية

منذ إدارة أوباما، رُوّج لشعار “Pivot to Asia” – أي التحوّل نحو آسيا – لكنه ظلّ حبرًا على الورق بفعل تورط واشنطن في الشرق الأوسط وأوكرانيا. أما حضور ترامب اليوم في قمة الآسيان بماليزيا، فهو بمثابة إعلانٍ رمزي عن بداية «العودة الجادة»، وإن جاءت متأخرة.

هذه العودة لا تُعبّر عن ثقة، بل عن خوف استراتيجي من تحوّل ميزان القوى العالمي. فالصين لم تعد مجرد منافس اقتصادي؛ بل أصبحت مركز جاذبية جيوسياسي يُعيد رسم شبكات النفوذ والتجارة في كامل المحيط الهادئ. وروسيا من جهتها، أعادت تثبيت حضورها العسكري والدبلوماسي في شرق آسيا بعد الحرب الأوكرانية. لذا تحاول واشنطن أن تستعيد زمام المبادرة قبل أن تتحول آسيا إلى مجال نفوذٍ مغلق أمامها.

تحالفات جديدة تحت راية "التهديد الصيني"

التحركات الأميركية الأخيرة في المنطقة لم تقتصر على الخطاب. فمن خلال إعادة تفعيل تحالفات مثل الـQUAD (الولايات المتحدة – اليابان – أستراليا – الهند)، ورفع مستوى التعاون العسكري مع الفلبين وكوريا الجنوبية، تتجه واشنطن لتطويق الصين عبر شبكة من التحالفات الأمنية والاقتصادية.

غير أن الحضور في قمة آسيان تحديدًا يحمل بعدًا مختلفًا: فواشنطن تسعى إلى اختراق الفضاء الرمادي الذي تتحرك فيه دول جنوب شرق آسيا، تلك الدول التي لا تريد الاصطفاف الكامل لا مع بكين ولا مع واشنطن. إنها منطقة التوازن الحرج التي تُقرِّر أين سيُرسى مركز الثقل في القرن الحادي والعشرين.

وجود ترامب في كوالالمبور هو محاولة لبعث رسالة واضحة: أن الولايات المتحدة لن تترك المجال الحر لبكين لتقود المبادرات الاقتصادية مثل “طريق الحرير الجديد”، ولا لتُسيطر على المعادن الحرجة وسلاسل الإمداد. ولهذا جاءت الاتفاقيات التي وقّعها ترامب مع بعض دول آسيان – خصوصًا ماليزيا – كمحاولةٍ لربط المصالح الاقتصادية بالتوجهات الجيوسياسية.

ماليزيا.. بين الاستضافة والتحفّظ الشعبي

اختيار ماليزيا كمحطة لهذه العودة لم يكن اعتباطيًا. فهي دولة تقع في قلب الممرات البحرية الآسيوية الحساسة، وتشرف على مضيق ملقا، أحد أهم شرايين التجارة العالمية. لكن في الوقت نفسه، هي دولة ذات حساسية عالية تجاه السياسات الغربية، وشعبها يُبدي مواقف واضحة تجاه قضايا مثل فلسطين أو الهيمنة الأميركية.

لذلك، فإن الاحتجاجات التي رافقت زيارة ترامب لم تكن مجرد رد فعل شعبي، بل مؤشر على الانقسام العميق بين المسار الرسمي الماليزي الذي يريد إبقاء قنواته مفتوحة مع واشنطن، والمسار الشعبي الذي يرى في أميركا رمزًا للانحياز والازدواجية. هذا التناقض بين السلطة والمجتمع هو ما يجعل منطقة جنوب شرق آسيا ملعبًا صعبًا لأي قوة تسعى إلى فرض نفوذها الناعم.

الصين: الخصم الحاضر في الغياب

رغم أن بكين لم تكن على طاولة القمة، إلا أنها كانت الحاضر الأكبر في كل نقاش. فكل تحرك أميركي في المنطقة يُقرأ ضمن إطار واحد: محاولة تطويق الصين.
لكن بكين، بدلاً من الدخول في مواجهة مباشرة، اختارت استراتيجية "الاحتواء العكسي" عبر توسيع نفوذها الاقتصادي والمالي من داخل آسيان نفسها. وهي اليوم الشريك التجاري الأول لمعظم دول المنظمة، والمستثمر الأهم في البنية التحتية الإقليمية.

ما يقلق واشنطن ليس فقط حجم النفوذ الصيني، بل نوعيته: إنه نفوذ اقتصادي يتحول ببطء إلى اعتمادٍ سياسي، ثم إلى اصطفاف استراتيجي. فحين تصبح شبكات الطاقة، والموانئ، والتكنولوجيا الحيوية في يد الصين، فإن النفوذ الأميركي يفقد قيمته حتى قبل أن يُختبر عسكريًا.

آسيان بين المطرقة والسندان

المنظمة التي وُلدت لتكون إطارًا للتكامل الاقتصادي الإقليمي تجد نفسها اليوم في مأزق. من جهةٍ هناك الإغراءات الصينية، ومن جهةٍ أخرى الضغوط الأميركية. فالميلان نحو واشنطن يعني الدخول في لعبة المحاور، والميلان نحو بكين يعني فقدان الاستقلالية الاقتصادية.
لذا تحاول دول آسيان – مثل إندونيسيا وماليزيا وتايلند – انتهاج ما يُعرف بـ"التموضع المتوازن"، أي التعاون مع الطرفين دون التورط في صراع أحدهما ضد الآخر.

لكنّ هذه السياسة تبدو أصعب فأصعب مع تصاعد التوتر الأميركي-الصيني، لأن كل اتفاق تجاري أو صفقة تكنولوجية أصبح يُقرأ كبيان سياسي. وهنا تكمن حساسية اللحظة الراهنة: الحياد لم يعد ممكنًا بسهولة.

منطق الحضور الأميركي: بين الصورة والمضمون

من الناحية الدعائية، يظهر ترامب كقائد يسعى لتوقيع اتفاقات سلام في المنطقة (مثل اتفاق تايلند وكمبوديا)، وكزعيم يريد دعم النمو والتعاون. لكن القراءة الجيوسياسية تكشف أن الهدف الحقيقي هو إعادة تثبيت النفوذ الأميركي في مفاصل الاقتصاد الآسيوي.
واشنطن لا تستطيع مجاراة الصين في البنية التحتية أو التمويل، لكنها تراهن على أدوات أخرى: النفوذ العسكري، والتحالفات الأمنية، والدبلوماسية الرمزية.

الولايات المتحدة تدرك أن خسارة آسيا-المحيط الهادئ تعني خسارة النظام الدولي كما عرفناه منذ الحرب العالمية الثانية. لذلك، فإن كل حضور أميركي في المنطقة – من القمم الدبلوماسية إلى المناورات العسكرية – هو في جوهره معركة على شكل النظام العالمي القادم.

ما بعد القمة: مشهد مفتوح

زيارة ترامب فتحت الباب أمام سباق جديد، لا يُقاس بالبيانات المشتركة بل بعمق الاصطفافات المقبلة.

  • إذا استطاعت واشنطن تحويل حضورها إلى التزامات اقتصادية حقيقية، فستكسب موطئ قدم في مسرح آسيا المتغير.

  • أما إذا بقيت حركتها رمزية، فستتحول هذه القمة إلى مجرّد عرض علاقات عامة أمام صعودٍ آسيوي متماسك.

التحرك الأميركي في آسيا ليس وليد قرار تكتيكي، بل اعتراف متأخر بأن مركز العالم يتحول شرقًا، وأن الإمبراطورية القديمة لم تعد تتحكم بخطوط التجارة ولا بمفاتيح التكنولوجيا ولا ببوصلات الشرعية.

خاتمة

حضور ترامب إلى ماليزيا لم يكن "زيارة"، بل علامة على عصر جديد تتصارع فيه القوى الكبرى على إعادة تعريف آسيا لا كقارة نامية، بل كقلب النظام العالمي.
لكن المثير في المشهد أن المنطقة نفسها لم تعد كما كانت: فهي اليوم تمتلك إرادتها، وأسواقها، وشعوبها التي ترفض أن تكون ساحة صراعٍ بين واشنطن وبكين.

في المحصلة، كانت قمة الآسيان لحظة رمزية تكثّف سؤال المستقبل:
هل تعود واشنطن إلى آسيا لاعبًا فاعلًا، أم زائرًا متأخرًا في زمنٍ تغيّر ميزانه؟

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.