المأزق المزدوج: حين فقدت إسرائيل أمانها وخرجت المقاومة من الركام أكثر حضورًا

لم تكن حرب غزة الأخيرة حربًا عادية، ولا مواجهة عسكرية أخرى في سجل الصراع.

لقد كانت زلزالًا استراتيجيًا ومعنويًا أعاد تشكيل معاني النصر والهزيمة في المنطقة.
فبينما خرجت إسرائيل بدمارٍ واسعٍ ظنّت أنه انتصار، خرجت المقاومة الفلسطينية وقد زعزعت الأسطورة الأعمق في العقيدة الصهيونية: أسطورة الأمان المطلق.
في هذه الحرب، تغيّر جوهر الصراع — إذ لم يعد السؤال من يملك القوة، بل من يملك المعنى، ومن يستطيع البقاء رغم السحق.

من السيطرة بلا حرب إلى الحرب بلا مخرج

قبل السابع من أكتوبر، كانت إسرائيل تعيش مرحلة استقرارٍ استراتيجي غير مسبوقة.
حدود هادئة، تطبيع متسارع، واعتقاد راسخ بأن غزة محاصرة ومشلولة.
لكن تلك اللحظة الفاصلة قلبت الحسابات كلها؛ إذ وجدت إسرائيل نفسها فجأة في حربٍ لم تخطط لها، ولا تعرف كيف تخرج منها.

لقد تحولت من كيانٍ يسيطر على الأرض دون قتال، إلى كيانٍ يقاتل ليحافظ على شعورٍ بالسيطرة.
فقدت تفوقها الاستخباري الذي كان مصدر غرورها، وظهرت هشاشة منظومتها الأمنية أمام هجومٍ مباغت أطلقه فصيل محاصر في بقعة صغيرة.
منذ ذلك اليوم، لم تعد الحرب خيارًا إسرائيليًا، بل عبئًا لا مفرّ منه.

انهيار أسطورة الأمان

للمرة الأولى في تاريخ الكيان، أصبحت مدنه المركزية هدفًا يوميًا للصواريخ.
تل أبيب، رمز الأمان، تحوّلت إلى مدينة ملاجئ.
المجتمع الإسرائيلي الذي طالما قيل إنه “يعيش فوق خطوط النار ولا يخاف”، بدأ يعيش تحت الأرض فعليًا.

الهجرة العكسية ازدادت، وشعورٌ جماعي بالقلق تسلّل إلى عمق الدولة.
وهذا أخطر من أي خسارة عسكرية؛ لأن إسرائيل تأسست أصلًا بوعدٍ نفسي: أن تكون "الملاذ الآمن لليهود".
فحين يتلاشى الأمان، يتصدع الأساس الوجودي للدولة نفسها.

المقاومة: حين يصبح البقاء شكلًا من أشكال الانتصار

رغم الكلفة الإنسانية الهائلة، خرجت المقاومة وقد حققت ما يتجاوز المفهوم التقليدي للنصر.
لقد أثبتت أن الردع المتبادل ممكن، حتى في غياب التكافؤ المادي.
استطاعت الصمود أمام جيشٍ هو الأقوى في المنطقة، وأبقت الحرب مفتوحة رغم الحصار والدمار.

إن مجرد استمرارها بعد كل ما جرى هو نصر في ذاته، لأن الهدف الإسرائيلي الأول كان محوها من الوجود السياسي والعسكري.
لكن ما انتهى فعليًا هو وهم السيطرة الإسرائيلية المطلقة، لا وجود المقاومة.

شجاعة تتجاوز المعقول

ما أثار دهشة العالم في هذه الحرب هو شجاعة المقاتلين تحت الحصار الكامل.
أفرادٌ يقاتلون بلا غطاءٍ جوي، بلا اتصالات، بلا إمدادات، ومع ذلك يهاجمون في وضح النهار، ويعودون عبر الأنفاق بعد أن يضربوا أهدافًا محصّنة.

هذه الشجاعة لا يمكن تفسيرها بالتحليل العسكري فقط، لأنها تنتمي إلى مستوى آخر من الإيمان بالمعنى.
المقاتل الذي فقد كل شيء، ولم يعد يملك إلا إرادته، يصبح أخطر على خصمه من جيشٍ يملك كل شيء لكنه يخاف الخسارة.
ولذلك لم تكن المعركة على الأرض فقط، بل في الوعي والروح.

النصر كقدرة على الإزعاج

في فلسفة المقاومة، ليس النصر هو الاستيلاء على الأرض، بل جعل المحتل يعيش قلقًا دائمًا.
فالهدوء هو المكسب الحقيقي للغزاة، وإزعاجهم هو النصر الحقيقي للمستضعفين.
وإذا كان تعريف النصر هو من ينام مطمئنًا بعد الحرب، فإن إسرائيل لم تعرف النوم منذ السابع من أكتوبر.

لقد أدركت أن التفوق التقني لا يصنع طمأنينة، وأن الأمن الذي يُبنى على الخوف من الآخر لا يمكن أن يستمر.
بينما المقاومة، رغم فقدانها كل مقومات الحياة، نجحت في تحقيق غايتها الأعمق: كسر اليقين الإسرائيلي بالهيمنة.

تحول في الوعي العالمي

ربما كان المكسب الأكبر للمقاومة في هذه الحرب هو إعادة الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية.



خرجت الملايين في شوارع الغرب، وعاد السؤال الأخلاقي إلى مركز المشهد:
كيف يمكن لدولة تدّعي الديمقراطية أن تحاصر شعبًا بأكمله ثم تبرر قتله؟

تحوّل الفلسطيني من “فاعلٍ في نزاعٍ قديم” إلى رمزٍ إنساني عالمي،
وتحوّل الخطاب الإسرائيلي من “ضحية الإرهاب” إلى “قوةٍ مدمّرة تخشى الحقيقة”.
وهذا التحول في الصورة الدولية لا يقل أهمية عن أي نصر ميداني.

المأزق المزدوج

كلا الطرفين خسر الكثير، لكن طبيعة الخسارة مختلفة:

  • المقاومة خسرت الأرض والقدرة الإدارية.

  • إسرائيل خسرت المعنى والأمان والهيبة.

والفرق أن خسارة إسرائيل تمس جوهر وجودها، بينما خسارة المقاومة جزء من ثمن بقائها.
الأولى تخاف من الفناء، والثانية لا تخاف منه.
ومن هنا، تبرز المفارقة الكبرى: أن المنتصر الحقيقي هو من يفرض على عدوه أن يعيش في خوفٍ دائمٍ من تكرار المواجهة.

خاتمة: حين ينتصر الوعي

هذه الحرب لم تغيّر الجغرافيا، لكنها غيّرت معادلة الإدراك.
لقد سقطت أوهام السيطرة، وتهاوت فكرة الأمن المطلق، وبرزت من تحت الركام إرادة لا يمكن قصفها.

لقد كانت حربًا بين من يملك كل أدوات القوة لكنه يخاف الخسارة،
ومن لا يملك شيئًا سوى إيمانه بقضيته، فلا يخاف شيئًا على الإطلاق.
وهذا وحده كافٍ ليقلب مفاهيم النصر رأسًا على عقب.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.