الإنترنت الميت: هل أصبح العالم الافتراضي آلة تضليل بلا بشر؟

لم يعد الإنترنت مجرد شبكة من البشر يتبادلون المعرفة والأفكار، بل تحوّل تدريجيًا إلى منظومة تنسجها خوارزميات خفية، تصنع المحتوى وتوجّه السلوك وترسم ملامح الوعي الجمعي. ما كنّا نظنه فضاءً حرًا للتعبير بات اليوم امتدادًا لمصانع رأي تعمل بلا توقف، حيث تختفي الأصوات الحقيقية وسط ضجيج آلي متقن الصنع. في عالم كهذا، يصبح السؤال الجوهري: هل ما نشاهده اليوم من محتوى هو نشاط بشري حقيقي؟ أم أننا ندور داخل محاكاة ضخمة تصنع لنا واقعًا زائفًا؟

هذا هو مفهوم “الإنترنت الميت”؛ شبكة حيّة ظاهرًا، لكن روحها البشرية تتلاشى ببطء.

1) من الإنترنت الحي إلى الإنترنت الميت

في بدايات الشبكة، كان الإنسان هو المحرك الوحيد للمحتوى:

  • أشخاص يكتبون
  • مجتمع يناقش
  • تجارب حقيقية تنتشر

ثم جاء عصر الذكاء الاصطناعي والروبوتات والأنظمة المؤتمتة، لتتحول الشبكات الاجتماعية إلى مسرح تُحركه أطراف غير مرئية. ما الذي حدث؟

  • تضخمت كمية المحتوى بطريقة تفوق قدرة البشر على إنتاجه
  • الحسابات المزيفة تفوّقت عدديًا على المستخدمين الحقيقيين
  • الإعلانات والسياسات التجارية أصبحت هي المقياس الوحيد للظهور

أصبح كل شيء قابلًا للتزييف: المتابعون، التفاعل، الشعبية، وحتى الرأي العام ذاته.

2) الروبوتات تكتب… والبشر يتلقون

عندما تملأ الخوارزميات الفضاء الرقمي بمحتوى “مصنوع”، فإنها تحدد ما يراه الناس وما يجهلونه.
كيف يحدث ذلك؟

  • روبوتات تروّج فكرة معينة عبر ملايين المنشورات
  • حسابات متناسخة تُظهر إجماعًا وهميًا
  • تعليقات “مَصنوعة” تمنح مصداقية كاذبة
  • ترندات تخلق رأيًا عامًا لم يوجد أصلًا

وهكذا… تتحول الشبكة إلى غرفة صدى عملاقة، يتردد فيها الصوت نفسه من آلاف الاتجاهات، فيظنه الناس حقيقة.

الأخطر من ذلك:
نحن لا نعلم أن ما نراه مزيف.

3) الاستبداد الناعم: كيف تُدار العقول بلا قمع؟

وسائل الإعلام التقليدية كانت تروّج خطابًا واحدًا، لكن الإنترنت سمح ملايين الأصوات.
فكيف استعادت السلطة سيطرتها؟
ليس عبر المنع…
بل عبر الإغراق.

إغراق الساحة بكمية هائلة من محتوى هابط، تافه، أو مبرمج لإزاحة القضايا الحقيقية من الوعي العام.
النتيجة:

  • الحقيقة تضيع وسط سيل المعلومات
  • التركيز البشري يُستهلك في لا شيء
  • العواطف تُدار بخوارزميات الاستفزاز

إنه قمع بلا شرطي، واستبداد بلا سجون.

4) موت النقاش البشري: من الحوار إلى التلاسن والدوبامين

النقاشات التي تُدار اليوم ليست بهدف الفهم أو الحوار، بل بغرض:

  • زيادة البقاء على المنصة
  • رفع الإعلانات
  • التحكم في انفعالات المستخدم

خوارزميات تحرّض على الغضب والانقسام، لأنهما أكثر ربحية.
ومع الوقت:

  • يختفي التفكير
  • تُستبدل المعرفة بالانطباعات
  • تتفتت المجتمعات إلى قبائل رقمية

لقد أصبحنا نعيش في عالم حيث الضجيج أعلى من المعنى.

5) المحتوى بلا روح: كيف تُخلق شخصيات افتراضية لا وجود لها؟

ظهرت موجة جديدة من “المؤثرين”:
وجوه جميلة، صور متقنة، قصص مُحكمة، ملايين المتابعين…
لكن لا وجود لهم في الواقع.

شخصيات رقمية صممتها الشركات لتروّج منتجات وآراء وتوجّهات.
هي بشر اصطناعيون، يملكون تأثيرًا يفوق الكثير من البشر الحقيقيين.

تنطبق الفكرة نفسها على الأخبار:

  • مواقع بلا صحفيين
  • مقالات مكتوبة آليًا
  • مصادر لا يمكن التحقق منها

إنها صناعة رأي بلا إنسان.

6) لماذا يسمى «إنترنتًا ميتًا»؟

ليس لأنه بلا نشاط…
بل لأن البشر لم يعودوا مركزه.

كلّ ما كان يُفترض أن يشكّل روح الإنترنت انتهى:

  • الحرية
  • الحقيقة
  • الحوار
  • المعرفة المتبادلة

حلّ محلها:

  • تزييف
  • تلاعب
  • دعاية
  • مصالح كبرى

إنه عالم “ميت” من الداخل… لكنه يتحرك كخيال يتظاهر بالحياة.

7) هل يمكن إحياء الإنترنت؟

هذا السؤال ليس تقنيًا… بل وجوديًا.

الإحياء يبدأ من:

  1. تعزيز المحتوى الذي يصنعه أشخاص حقيقيون
  2. كشف الحسابات الآلية والبروباغندا الرقمية
  3. بناء مساحات نقاش حقيقية
  4. الدفاع عن الخصوصية وحق المستخدم في اختيار ما يرى
  5. تفكيك الخوارزميات المغلقة التي تتحكم بوعي الناس

الإنترنت حيّ ما دام الإنسان موجودًا فيه عاقلًا واعيًا
لا مجرد مستهلك مسيَّر.

خاتمة

نقف اليوم أمام أخطر تحول في تاريخ الوعي:
التحول من إنترنت صنعه البشر ليتواصلوا…
إلى إنترنت يصنع البشر كي يخضعوا.

وإذا لم ندرك ذلك قريبًا،
سنجد أنفسنا نعيش في واقع تحكمه خوارزميات لا نراها،
ونتنازل تدريجيًا عن قدرة الإنسان على معرفة العالم
بل وحتى معرفة نفسه.

الإنترنت الميت ليس موتًا للشبكة… بل موتًا للإنسان داخلها.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.