
سأعرض في هذا المقال تحليلاً منظّمًا لأوراق الحركة، حدودها، وأثرها الاستراتيجي طويل المدى—مع تركيز خاص على أبعاد الشرعية والسرد والقدرة على الصمود، لا على التفصيلات العملياتية.
1. تكوين المشهد: مرحلة الضغوط الجوية والإدارة عن بُعد
الانتقال إلى قصف جوي مستمر يعني أن إسرائيل تختار الحد الأدنى من التكاليف السياسية والإنسانية الإسرائيلية (جنوداً وأسرى)، مع المحافظة على أعلى فعالية في إحداث الخلل في بنية غزة. هذا النموذج يهدف إلى «إضعاف» المقاومة تدريجيًا، واستنزاف المجتمع المدني ماديًا ونفسيًا، مع حفظ قدرة إسرائيل على الادعاء بأنها لا تحتل فعليًا أراضي جديدة.
النتيجة العملية: حماس أمام تحديين متزامنين — نقص في الساحة الميدانية التقليدية، وضغط مستمر على المجتمع المدني والموردين.
2. الورقة الأولى: الصمود الاجتماعي والتحوّل إلى استراتيجية بقاء
أقوى ورقة لدى حماس ليست بالضرورة سلاحًا تقنيًا، بل قدرة المجتمع على الصمود. البقاء تحت القصف، تنظيم الخدمات البديلة، وإدارة الأزمة بما يكسر هدف القصف من «كسر الإرادة». الصمود هنا يتحول إلى مادة سياسية: كل يوم تستمر فيه حياة الناس رغم القصف يُضعف مشروع الردع الإسرائيلي أمام الرأي العام الدولي والمحلي.
حدود الورقة: الصمود يتطلب موارد مستمرة—غذاء، دواء، تماسك اجتماعي—وهي مصادر مهدّدة بشدة في نموذج الحصار والقصف الجوي.
3. الورقة الثانية: الحرب السردية — توثيق وفضح الانتهاك
عندما يصبح الرد العسكري المباشر مكلفًا وغير مؤثر، تتعاظم قيمة حرب السرد. توثيق لحظي للضحايا، بث مباشر، شهادات طبية موثقة، وتسليم المواد إلى منابر إعلامية وشبكات حقوقية دولية. هذا ليس مجرد ترويح؛ بل تحويل كل ضربة إلى دليل أخلاقي يرهق حلفاء إسرائيل ويشتت قدرتهم على التبرير.
حدود الورقة: التأثير هنا بطيء ويتطلّب شبكات اتصال قوية ووسائط إعلامية دولية متعاطفة أو على الأقل قابلة للاستقطاب.
4. الورقة الثالثة: الساحة القانونية والدبلوماسية الطويلة المدى
رفع الملفات إلى محاكم دولية، التعاون مع منظمات حقوقية، ضغوط على مؤسسات التمويل والقانون—هذه أوراق ذات أفق طويل. نتائجها ليست فورية لكنها تراكمية: فُقدان المصداقية الغربية، حملات مقاطعة، وتهديدات بخسائر اقتصادية للحلفاء.
حدود الورقة: المعيارية الدولية انتقائية، والنتائج تعتمد على إرادة دولية غالبًا مفقودة أو مترددة.
5. الورقة الرابعة: الاستفادة من الديناميات الإقليمية
حماس ليست جزيرة؛ أي تبدّل في مواقف محاور إقليمية (حزب الله، إيران، اليمن) قد يعيد التوازن. حتى تصعيد محدود أو فتح جبهة ثانوية يرفع تكلفة الضربات الجوية على إسرائيل ويعطل استراتيجية «الإدارة عن بُعد».
حدود الورقة: الاعتماد على حلفاء إقليميين رهين حساباتهم ومصالحهم وليس مبدأ التضامن بلا مقابل.
6. الورقة الخامسة: التحوّل إلى عمليات غير متماثلة ومفاهيم جديدة للردع
تطوير تكتيكات الهجومات الصغيرة، استغلال نقاط الضعف اللوجستية، وتهديدات متقنة الهدف—قد تخلق ردودًا إسرائيلية مبالغًا فيها تُستخدم لتقوية السرد المقاوم. هنا الهدف ليس تغيير ميزان القوى بل إحداث تكاليف سياسية ونفسية لإبقاء المعادلة غير قابلة للاستقرار.
حدود الورقة: فعاليتها محدودة أمام سيطرة جوية مطلقة ورادع دفاعي متقدّم.
7. تقييم تكاملي: من الربح التكتيكي إلى التغيير الرمزي
النتيجة العملية هي أن حماس قد تفقد القدرة على تحقيق انتصارات ميدانية تقليدية أمام استراتيجية القصف الجوي المستمر، لكنها تملك أدوات لتحويل النصر التكتيكي الإسرائيلي إلى خسارة استراتيجية رمزية. الأثر الأكبر ليس في البطولات المعارك، بل في تآكل شرعية الاحتلال أمام شعوب العالم وعلى المضمار الداخلي الإسرائيلي. إذا نجحت حماس ــ وصناع السرد معها ــ في إبقاء قضية الضحايا والوثائق حية، فإن القصف سيتحول إلى عبء سياسي طويل الأمد على إسرائيل وحلفائها.
8. الخلاصة: أوراق ليست كافية لكنها مؤثرة بشكل مختلف
في مواجهة «سماء مستمرة»، لا تمتلك حماس رادعًا جوّيًا مساوٍ. لكنها تمتلك مزيجًا من الصمود، السرد، الضغوط القانونية والدبلوماسية، والارتباط الإقليمي الذي قد يغيّر تكلفة الاستمرار لإسرائيل على المدى المتوسط والطويل. هذا التحوّل في طبيعة الصراع يجعل من المعركة مسألة مشروعية ووعي وصمود أكثر من كونها مسألة صواريخ فقط.