
في قلب أمريكا العنصرية، وُلد مالكوم إكس من رحم الظلم ليصبح صوتًا مدوّيًا للكرامة السوداء والهوية الإسلامية. لم يكن تحوّله من الجريمة إلى الدعوة مجرّد صحوة فردية، بل مسارًا ثوريًا أعاد تعريف الوعي بالذات والعدالة. تحدّى النظام الأبيض بمفردات حارقة وحضور لا يُهادن، ثم صقل نضاله بالوعي العميق بعد تحوّله الفكري والروحي في آخر سنواته. لم يرضَ بأنصاف الحلول، ولا أن يُختزل كرمز غاضب، بل سعى لوحدة تُبنى على الحق لا على المساومة. ورغم اغتياله، بقي صدى كلماته حيًّا في كل من يرفض أن يولد ويُدفن صامتًا.
اسمه "مالكوم ليتل"، لكنه رفض أن يحمل اسم أسياده، فاستعاد ذاته من أنقاض العبودية، وأعاد تسميتها بحرف واحد: X.
من سجين إلى رسول وعي
نشأ مالكوم في بيئة سوداء مسحوقة، تتلقى تعليمًا يُقنعها بأنها أقل شأنًا، وإعلامًا يصوّرها ككائنات عنيفة لا تستحق الحياة الكريمة. دخل السجن مبكرًا، وفي الزنزانة بدأ أول احتكاك مع "أمة الإسلام"، الحركة الدينية التي مزجت بين الإسلام والهوية السوداء، وقدّمت له أول شعور بالكرامة.
لكن مالكوم لم يتوقف عند الشعار، بل راح يغوص في النص، ويقرأ في جوهر الإسلام. لم يقنعه إله الطائفة، بل فتّش عن إله الإنسان. لم يكتفِ بخطاب العنصرية المضادة، بل أراد خطابًا يؤسس لتحرر حقيقي، لا يُكرر أخطاء الجلاد تحت غطاء جديد.
رحلة التحوّل: من الغضب إلى البصيرة
في عام 1964، أدى مالكوم الحج، وهناك حصل التحوّل الأكبر. رأى المساواة الحقيقية لأول مرة: الأبيض والملوّن والسوداني والإندونيسي والهندي، يسيرون حفاة بثياب بيضاء، لا يعلو أحد على أحد إلا بالتقوى.
أرسل رسالة مشهورة كتب فيها:
"لقد رأيت في مكة مسلمًا ذا عيون زرقاء، يأكل من الطبق نفسه مع رجل إفريقي أسود. الإسلام الحقيقي لا يفرّق بين البشر بل يوحّدهم."
عاد إلى أمريكا ليس كناشط غاضب، بل كمثقف مسلم يحمل مشروعًا عالميًا للوعي. أدرك أن معركته لم تكن فقط ضد التمييز العنصري، بل ضد المنظومة الإمبريالية التي تُعيد إنتاج الظلم بلباس القانون، والديمقراطية، والتقدّم.
بدأ يتحدث عن فلسطين، وعن الاستعمار الفرنسي، وعن إفريقيا، وعن الأمة الإسلامية الغائبة، وأصبح يُشكّل تهديدًا لا فقط للنظام الأمريكي، بل لمن أرادوا حصر الإسلام في قومية سوداء. ولذلك... كان الاغتيال حتميًا.
اغتيال الجسد لا الفكرة
في عام 1965، تم اغتيال مالكوم إكس أمام زوجته وأطفاله، تمامًا كما اغتيل كثير من أنبياء الوعي قبل أن يكتمل مشروعهم. لكن الفكرة التي أطلقها من بين الركام لم تمت. بل تضخّمت، وتحوّلت إلى تيار عابر للحدود.
لقد أعاد تعريف الإسلام في وجدان الأمريكيين، لا كدين طقوس، بل كدين كرامة وعدالة ونهوض. أعاد للهوية السوداء اتصالها بجذرها الإسلامي، لا كحالة دفاعية، بل كمشروع فكري مقاوم.
رمزية مالكوم في زمن السقوط
في زمن كانت فيه الأمة مستلبة بين أنظمة وظيفية، وعلماء يشرعنون الطاعة، ومثقفين ينقلون عن المستشرقين، ظهر مالكوم إكس بلا حزب، ولا دولة، ولا سند... إلا الفكرة. نهض وحده ليقول:
"أنا لست أمريكيًا... أمريكا لم تكن لي يومًا. أنا جزء من أمة أكبر، من العالم الإسلامي، من جنوب العالم، من الإنسان المظلوم في كل مكان."
كان يمثل الضمير الإسلامي حين سكت الجميع، والنخبة المسلمة حين تحوّلت النخب إلى وكلاء ثقافة، والمفكر الحرّ حين صمت الفقهاء وخطب الرسميون.
في عالم خافت فيه صوت الأمة، تكلم مالكوم. وفي عالم اختلطت فيه المفاهيم، أعاد ترتيب الأولويات. وفي عالم هُزمت فيه الجيوش، انتصرت فكرته... لأنها خرجت من الصدق لا من الحسابات.