العودة إلى الشام: حين تنبض الذاكرة بالحاضر


منذ أيامٍ قليلة، بدا كأنَّ التاريخ قد فتح إحدى صفحاته المغلقة منذ عقود؛ سقط نظام البعث في سوريا، وفرّ بشار الأسد إلى موسكو، وسُمِعَ لأول مرة منذ خمسين عامًا صوتٌ حرٌّ في دمشق لا ينتمي إلى آلة الحزب ولا إلى أنين المعتقلات. لكن هذه الأحداث، رغم حداثتها، لا يمكن قراءتها بمعزل عن عمقها الحضاري والروحي: إنها عودةٌ رمزية وتاريخية إلى الشام، تلك الأرض التي شكّلت أول قلب نابض للدولة الإسلامية، ومركز انطلاقتها إلى العالم.

فالذي يجري اليوم في الشام ليس مجرد تغيير سياسي أو سقوط لنظام قمعي، بل هو اهتزاز لمرحلة كاملة من التزييف التاريخي والتمويه الجغرافي لرسالة هذه الأرض. فهل يعود المسلمون إلى الشام؟ أم أن الشام هي التي تعود إلى ذاتها؟

الشام: عاصمة أول حضارة إسلامية

حين اختار الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان دمشق لتكون أول عاصمة إسلامية بعد المدينة، لم يكن ذلك خيارًا إداريًا فحسب، بل إعلانًا لحضور الإسلام كقوة حضارية عالمية. من الشام انطلقت الجيوش إلى الأطراف، ومن مساجدها انبثقت المدارس والمذاهب، ومن أزقتها نسجت الدولة الإسلامية أول تجربة حكم مستقرة في قلب العالم القديم.

كانت دمشق أكثر من عاصمة؛ كانت رمزًا للتحول من مجتمع الرسالة إلى أمة الحضارة. فيها وُضعت اللبنات الأولى للعلم المدني، والإدارة المركزية، والمراسلات الدولية، والدعوة العالمية، والبناء المعماري الذي جمع بين الجمال والوظيفة. وقد ظلت الشام حاضنةً للعلوم والتجديد والمذاهب والرجال حتى جاء من أراد أن يحولها إلى ثكنةٍ أمنية ومزرعةٍ طائفية.

الشام في وعي المسلمين: الجغرافيا التي لا تموت

في الأدبيات الإسلامية، لم تكن الشام مجرد إقليم، بل كانت حاملةً لرسالة “الرباط”. في الحديث النبوي، يُثنى على “طوبى للشام”، ويُروى أنها “عُقر دار المؤمنين عند الفتن”. وقد ظلّت رمزية الشام حاضرة في وجدان الأمة، رغم تغيّر العواصم وتبدّل العصور.

لكن هذه الرمزية أُصيبت بجراحٍ عميقة عندما تحوّلت دمشق إلى مقرٍّ لواحد من أطول وأشرس أنظمة القمع في المنطقة. لم يكن حكم حزب البعث سوى عملية تغريب للهوية الإسلامية للشام، عبر طمس تاريخها، وقتل علمائها، وتقديمها للعالم كمنصة لـ”العلمانية المقاومة” ذات الواجهة القومية والشعار التحريري، بينما الداخل يقبع تحت ظلال السجون والمخبرين.

سقوط البعث: نهاية مرحلة أم بداية ذاكرة؟

فرار بشار الأسد لا يمثل فقط هزيمة رجلٍ مستبد، بل انهيارًا لمرحلة كاملة من التحنيط السياسي والتضليل الإعلامي الذي استُخدم لتثبيت سلطة حزب واحد على جسد أمة بأكملها.

لقد سقطت دمشق كما سقطت بغداد من قبلها، لكن الفارق أن سقوط دمشق اليوم قد يفتح بابًا لنهضة لا احتلالًا، وقد يعيد تشكيل وعي الأمة لا تقسيمها.

من هنا، فإن تحرير سوريا من قبضة البعث لا ينبغي أن يُفهم كتحول محلّي، بل كجزء من عودة المسلمين إلى جغرافيا الذاكرة. إنها لحظة يجب أن يُعاد فيها تعريف معنى “العودة”؛ ليست عودة سياسية وحسب، بل عودة للرسالة، للموقع الحضاري، للدور التاريخي الذي ما فتئت الشام تمثّله منذ الفتح الأول وحتى آخر صيحةٍ في درعا أو غوطة دمشق.

تحديات ما بعد العودة

لكن هل تكفي الرمزية وحدها؟
إن الخطر الأكبر في مثل هذه اللحظات هو أن تتحول “العودة إلى الشام” إلى شعارات رومانسية بلا مشروع حضاري. الشام اليوم لا تحتاج فقط إلى من يرفع رايات النصر، بل إلى من يحمل معاول البناء الفكري والسياسي.


فالمرحلة القادمة تستدعي:
تفكيك الإرث البعثي من العقول قبل المباني.
إعادة ترميم الهوية السورية الجامعة دون طغيان قومي أو مذهبي.
تقديم الإسلام كما كان في أول ظهوره: قوة تجمع بين الرسالة والحكمة، بين السيف والكتاب، بين قوة العدل وعدالة القوة.
استحضار تجربة دمشق الأولى: عاصمة جامعة للأمة، لا لحزب ولا لطائفة.

هل تكون الشام بداية جديدة للأمة؟

ربما يُكتَب لاحقًا أن سقوط نظام الأسد كان الحدث الذي بدأ معه تحول العالم الإسلامي من التبعثر إلى الاستفاقة. فحين تسقط رموز القمع، تتنفس الذاكرة، وحين تستفيق الذاكرة، تبدأ الأمم في إعادة تشكيل مشروعها.

قد لا يكون الطريق ممهّدًا، وقد تعترضه تحديات التقسيم والتدخل الخارجي، لكن يكفي أن الشام عادت إلى أهلها، وأن الأذان فيها بات يُرفع بلا إذنٍ من فروع الأمن، وأن الوجوه التي كانت في السجون صارت اليوم في الساحات.

وإنّ هذه العودة ليست فقط عودة المسلمين إلى الشام، بل عودة الشام إلى المسلمين، إلى موقعها الطبيعي في قلب الوعي، في مركز القرار، وفي روح المشروع الحضاري.
+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.