الاتحاد الأوروبي: الوحدة الاقتصادية وقضايا السيادة المهدورة

حين يُذكر "الاتحاد الأوروبي"، تُستحضر صور الاستقرار، الازدهار، والسوق المشتركة، وتُروَّج أوروبا بوصفها المثال الأرقى للوحدة الطوعية والتكامل الإقليمي.

لكن هذا البناء المعقد، الذي تشكّل بعد حربين عالميتين، لم يكن فقط مشروع سلام، بل أيضًا مشروع نفوذ وهيمنة اقتصادية ناعمة.
فهل الاتحاد الأوروبي هو فعلاً شراكة متكافئة؟ أم أنه منظومة تُعيد إنتاج التفاوتات تحت غطاء من الديمقراطية والوحدة؟

الخطاب المعلن 

يرفع الاتحاد الأوروبي شعارات التعددية، وسيادة القانون، والحرية، ويقدّم نفسه كقوة مدنية بديلة عن منطق الحرب والصدام.
ويُقدَّم على أنه:

  • نموذج عالمي للتكامل الإقليمي.
  • مدافع عن حقوق الإنسان في الداخل والخارج.
  • كيان فوق قومي يحترم سيادة أعضائه.
  • شريك عادل للدول النامية، عبر اتفاقيات التجارة والمساعدات.

لكن هذا الخطاب المشرق سرعان ما يتكشّف عن واقع آخر، حين يُنظر إلى علاقة المركز بالأطراف، والسيطرة النقدية، ومعايير الدخول والخروج، وآليات صنع القرار.

الجانب المظلم

وراء واجهة الوحدة، يتضح أن الاتحاد الأوروبي ليس مشروعًا أفقيًا قائمًا على التوازن، بل سلم تراتبي تقوده دول بعينها، بينما تُفرَغ السيادة الوطنية من مضمونها.

الهيمنة الألمانية – الفرنسية المقنّعة

السياسات النقدية والاقتصادية في الاتحاد، وخصوصًا في منطقة اليورو، تُصاغ عمليًا وفق مصالح برلين وباريس.
الدول الجنوبية مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا، تُعامل بوصفها حلقات ضعيفة يجب "ضبطها"، ولو على حساب سيادتها الاقتصادية والاجتماعية.
وقد تجلّى ذلك في أزمة الديون اليونانية، حيث فُرضت عليها سياسات تقشف قاسية بإملاء من "الترويكا" (المفوضية الأوروبية، البنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي)، ما أدى إلى سحق الفئات الفقيرة.

أوروبا بسرعتين: المركز يقرّر والأطراف تتكيّف

ليس جميع الأعضاء متساوون. دول أوروبا الشرقية (مثل بولندا وبلغاريا ورومانيا) تُستخدم كمصانع رخيصة، وأسواق للمنتجات الغربية، دون امتلاك القدرة الحقيقية على التأثير في التوجهات العامة للاتحاد.
تُفرض عليهم تشريعات تتعلق بالقيم، والاقتصاد، والسياسة الخارجية، بينما يُعامَلون بتشكك في ملفات الهجرة والاندماج.

السيادة الوطنية مقابل البيروقراطية المركزية

يُصدَّر الاتحاد بوصفه ضمانة للسيادة، لكنه في الحقيقة يعيد تعريف السيادة لتصبح خاضعة لآليات فوق وطنية.
القرارات الأساسية تُتخذ في بروكسل، غالبًا دون مساءلة حقيقية من الشعوب، وتُفرض تشريعات على الدول الأعضاء بغض النظر عن التوافق الشعبي المحلي.
النتيجة: مجالس وطنية مُقيّدة، وحكومات تُدار في ملفات كثيرة بوصفها ممثّلات للاتحاد لا لمواطنيها.

فجوة الهوية والثقافة

رغم وحدة العملة، تبقى الهويات الثقافية متباعدة، بل أحيانًا متصارعة.
هناك شرق أوروبي كاثوليكي محافظ، وغرب علماني ليبرالي، وجنوب منهك اقتصاديًا، وشمال متفوق تكنولوجيًا.
الحديث عن "شعب أوروبي واحد" يبقى وهماً تسويقيًا، إذ يغيب الرابط الثقافي والوجداني الحقيقي.

سياسات خارجية مزدوجة

يُقدّم الاتحاد نفسه كوسيط نزيه في قضايا العالم، لكنه يتعامل غالبًا بمنطق المصالح الغربية.

  • يدعم الأنظمة السلطوية التي تخدم مصالحه في أفريقيا والشرق الأوسط.
  • يمارس ضغوطًا انتقائية في قضايا حقوق الإنسان.
  • يسكت عن الانتهاكات الإسرائيلية، ويقسو على خصوم واشنطن.
  • يُساهم في بناء "جدران قانونية" ضد اللاجئين، وتوطينهم في دول جوار أوروبا، بدل استيعابهم.

تطوير وعي نقدي: خطوات نحو التحرر الفكري

علينا أن نُحرر رؤيتنا من سحر النموذج الأوروبي، فليس كل "تكامل" يعني عدالة، ولا كل "وحدة" تعني شراكة.
التكامل الاقتصادي في غياب التكافؤ يُعيد إنتاج الاستعمار بصيغة جديدة: استعمار عبر الاتفاقيات، لا الجيوش.
كما أن الدولة التي تتخلى عن أدواتها النقدية، وتنتظر إشارات من بروكسل، ليست دولة سيّدة بل ملحقة.
والنقد هنا لا يعني الانغلاق أو الحنين للماضي، بل يعني بناء علاقات ندّية، ترفض الاستتباع، وتُعيد تعريف الشراكة.

الخاتمة التحليلية

الاتحاد الأوروبي مشروع حضاري معقّد، لكنه ليس بريئًا ولا عادلًا كما يُصوَّر.
في قلب هذا المشروع تتصارع المصالح، وتُداس السيادات، ويُعاد إنتاج النخب الاقتصادية نفسها.
إنه كيان وحدوي من جهة، لكنه أيضًا أداة لترسيخ تفوق دول بعينها على حساب غيرها، واستمرار علاقة غير متكافئة مع العالم خارج أسواره.
من لا يرى هذه الطبقات المعتمة تحت السطح، سيبقى أسيرًا لسردية "أوروبا المثالية"، دون أن يسأل: مثالية لمن؟ وبأي ثمن؟

أحدث أقدم
🏠