
منذ تأسيسه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، يُصوَّر الناتو كقوة استقرار و"توازن رادع"، لا تسعى للهيمنة بل لحماية أعضائها من العدوان.
لكن هذا الخطاب لا يخلو من فجوات، تطرح تساؤلات عن أدوار لا يُعلن عنها، وتدخّلات لا تُفسَّر إلّا في سياق المصالح الجيوسياسية. فهل الناتو مجرد مظلة دفاعية، أم أداة سياسية ذات طابع توسّعي في بنية القوة العالمية؟
الخطاب المعلن
يتبنّى الناتو خطابًا يقوم على حماية السلام، وردع الاعتداءات، والدفاع عن "القيم الغربية المشتركة" مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
يُقدَّم الحلف كتحالف دفاعي بحت، لا يتدخل إلا في حال الضرورة، ولا يسعى للسيطرة، بل يسعى لحفظ الأمن الجماعي على أساس ميثاق الأمم المتحدة.
كما يؤكّد على مبدأ "الهجوم على عضو هو هجوم على الجميع"، كدعامة للتضامن والتكامل بين أعضائه.
الجانب المظلم
لكن وراء هذا الخطاب، يتمدّد الناتو باتجاه الشرق منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، رغم تعهّدات سياسية سابقة بعدم التوسع، ما ساهم في تأجيج التوترات الجيوسياسية، خصوصًا مع روسيا.
في يوغوسلافيا السابقة، تدخل الناتو دون تفويض أممي مباشر، وشنّ حملة جوية على صربيا عام 1999، ضاربًا بعرض الحائط سيادة الدولة، باسم "التدخل الإنساني".
كما شارك في الحرب على أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر، في عملية تحوّلت من "دفاع عن النفس" إلى احتلال طويل الأمد لم يُحقق استقرارًا دائمًا، بل خلف فراغًا أمنيًا بعد الانسحاب.
وفي ليبيا عام 2011، تجاوز الحلف مهمة "حماية المدنيين" إلى إسقاط النظام بالكامل، مما أدى إلى فوضى طويلة الأمد في البلاد، وهو ما يكشف عن استخدام مبررات إنسانية لتحقيق أهداف سياسية.
وتحت ذريعة محاربة الإرهاب، شارك الحلف في بناء شبكات عسكرية ومخابراتية، وتدريب جيوش محلية في مناطق نفوذ حساسة، مما يُكرّس علاقات تبعية أمنية بعيدة عن معنى "الدفاع المشترك".
تطوير وعي نقدي: خطوات نحو التحرر الفكري
لفهم دور الناتو، يجب تجاوز السرديات الجاهزة حول الدفاع والردع، وقراءة الحلف ضمن سياق القوة العالمية وإعادة تشكيل التحالفات الدولية.
ما يبدو تحالفًا دفاعيًا قد يتحول إلى أداة ضغط وتطويق، خاصة في مناطق تُعتبر "محايدة" أو خارج الفلك الغربي.
من المهم التمييز بين الأمن المشروع والتدخل الجيوسياسي المغلف بشعارات، وبين حماية الديمقراطيات وفرض التوجهات بالقوة.
الوعي لا يعني رفض كل المؤسسات، بل إدراك البنية التي تُحرّكها، والغايات التي تخدمها، وما إذا كانت أدوات حفظ أم أدوات هندسة سياسية.
الخاتمة التحليلية
الناتو ليس مجرد تحالف عسكري تقني، بل لاعب رئيسي في تشكيل النظام العالمي، غالبًا بطرق تتجاوز حدود الدفاع إلى إعادة رسم الجغرافيا السياسية.
فحين تُستعمل قيم نبيلة كغطاء لتوسّع غير متكافئ، لا بد من مساءلة الأهداف، لا الشعارات.
ولذلك، فإن فهم دور الناتو يتطلّب أن نميّز بين الأمن كحق مشروع، والأمن كأداة للنفوذ، تُمارس عبر صفقات وتسويات تتجاوز القرار الأممي والشرعية الدولية.