حين يُعرَّف التخلّف بعدم التشابه مع الغرب: تفكيك مقياس زائف

في الخطاب السائد، كثيرًا ما يُعرّف "التخلّف" على أنه عدم اللحاق بالغرب، وكأن الغرب هو النموذج المطلق، والمعيار الوحيد للمدنية والتقدم. وبهذا الفهم، يُحكم على المجتمعات الإسلامية بالتخلف لمجرد أنها مختلفة ثقافيًا أو قيمًا أو حتى أنماطًا حياتية. لكن هذا التعريف الزائف لا يُعبّر عن حقيقة التقدم، بل يُكرّس خضوعًا ثقافيًا ونفسيًا. فهل "التخلّف" غياب نماذج الإنجاز؟ أم أنه عدم التشابه مع المنظومة الغربية؟


أولًا: التخلّف كمفهوم نسبي لا معياري

التخلّف – كأي مفهوم – لا يُفهم إلا في سياقه. فما يُعتبر تخلفًا في بيئة معينة قد يكون توازنًا في أخرى.
الزراعة اليدوية ليست تخلّفًا في مجتمع اختار التوازن البيئي، تمامًا كما أن غياب البنوك الربوية لا يعني تخلفًا ماليًا، بل قد يكون تحررًا أخلاقيًا.
لكن حين يُختزل "التقدم" في النموذج الغربي، يُفقد المفهوم معناه، ويُحوّل إلى أداة قياس أيديولوجية.


ثانيًا: الهندسة الثقافية للمفاهيم

خلال قرون الاستعمار، أعاد الغرب تعريف المفاهيم الكبرى:

  • فـ"العقلانية" أصبحت ما يتفق مع العلمانية.
  • و"الحرية" ما يتماشى مع النمط الفردي الغربي.
  • و"التقدم" هو اللحاق بالغرب صناعيًا وثقافيًا.

وبذلك، أصبح التخلف يعني ببساطة: أنت مختلف عنا!

لا أحد يريدك أن تتقدّم... بل أن تتشابه.

 

ثالثًا: رفض النماذج البديلة

في كل مرة حاولت أمة ما أن تنهض من خارج النموذج الغربي، تم تشويهها أو محاصرتها:

  • التجربة الإسلامية تُتهم بالرجعية.
  • التجربة الصينية تُتهم بالقمع.
  • التجارب التنموية المستقلة تُحاصر بالعقوبات والضغوط. 

والسبب؟ أنها تُهدد احتكار الغرب لتعريف "التقدم".

رابعًا: التخلّف الحقيقي هو التبعية

التخلّف ليس في اللباس التقليدي، ولا في نمط الحياة المختلف، ولا في رفض بعض تقنيات الحداثة.
التخلّف الحقيقي هو حين يفقد الإنسان قدرته على التفكير الذاتي، ويصبح تابعًا في تصوّره لنفسه، وتقييمه لمجتمعه، وصياغته لمستقبله.


خامسًا: استعادة تعريف التقدم من داخل الذات

إذا أراد العالم الإسلامي أن يتحرر من التخلّف، فعليه أولًا أن يتحرر من تعريف التخلّف كما يضعه الآخرون.
التقدم ليس في تقليد الآخر، بل في إنتاج نماذج حضارية بديلة، تنبع من قيمنا وتخدم إنسانيتنا.
هو القدرة على إدارة الموارد، وبناء العدالة، وتطوير الإنسان دون فقدان الهوية أو الوقوع في التبعية.


الخاتمة:

ليس التخلف أن نكون مختلفين عن الغرب، بل أن نجهل قيمنا ونقيس أنفسنا بميزان غيرنا.
التقدّم ليس اتجاهًا جغرافيًا نسير إليه، بل مشروعًا حضاريًا ننهض به من داخل ذواتنا.
فحين تُفكّك الهيمنة الثقافية التي تفرض تعريفات زائفة، نستطيع أن نتحرر لا من "تخلّفنا"، بل من وهْم تخلفٍ صُمم كي نبقى في الخلف.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.