الغناء في الشارع: لماذا لا يُعتبر تسوّلًا في الغرب؟

قراءة ثقافية في مفاهيم الكرامة والعطاء: 

في شوارع أوروبا وأمريكا، يعزف شاب على آلة موسيقية أو يغني بصوته المتواضع، واضعًا أمامه علبة صغيرة مكتوب عليها "شكرًا"، دون أن يطلب المال صراحة. تمرّ الناس، يتوقف البعض، يبتسم، يضع نقودًا، ويكمل طريقه. هذا المشهد مألوف، ويحظى في كثير من المدن الغربية بالقبول، بل يُنظر إليه باحترام. لكن في مجتمعات أخرى، قد يُعتبر هذا الفعل تسوّلًا. فما الذي يجعل الغناء في الشارع مقبولًا، بل مشروعًا ثقافيًا، بينما يُدان التسوّل اجتماعيًا؟ وهل الفرق فقط في المظهر؟ أم في المعنى العميق الذي يحمله كل سلوك؟

الفعل ذاته.. ولكن الرمزية مختلفة

عند النظر السطحي، يبدو أن من يغني في الشارع ويضع علبة نقود لا يختلف كثيرًا عن المتسوّل. كلاهما في الشارع، وكلاهما ينتظر أن يمنحه المارّة شيئًا من المال. لكن الفرق الجوهري يكمن في طبيعة العلاقة بين العطاء والاستحقاق.

فمن يغني أو يعزف في الشارع يُقدّم شيئًا، ولو بسيطًا، من القيمة الفنية أو الترفيهية. هو لا يطلب المال بلا مقابل، بل يترك الخيار للناس: إن أعجبك ما تسمع، فادعمني. أما المتسوّل، فهو يطلب المال مباشرة دون أي شكل من أشكال المقايضة الرمزية، مما يجعل العلاقة بينه وبين المتبرع قائمة على الشفقة أو الإحراج.

وبهذا الفارق الرمزي، يُنظر إلى فنان الشارع كشخص يسعى للكسب بكرامة، بينما يُنظر إلى المتسوّل كمَن يعتمد على عجزه أو استغلال عاطفة الآخرين.

الإطار القانوني: حماية للفن وليس للتسوّل

في كثير من المدن الغربية، تميّز القوانين بوضوح بين:

  • التسوّل التقليدي: طلب المال دون مقابل، وغالبًا ما يُحظر أو يُقيّد.

  • فن الشارع (Street Performance): يُعتبر نشاطًا مشروعًا، وقد يتطلب ترخيصًا بلديًا حسب المدينة.

بل إن بعض البلديات تحدد مواقع معيّنة لفناني الشوارع، وتُقيم لهم مهرجانات أو مسابقات، وتُشجع تواجدهم لما يضيفونه من "روح حضرية" على الفضاء العام. هذا الدعم القانوني يجعل من الأداء في الشارع جزءًا من الثقافة المحلية، وليس ظاهرة هامشية.

النظرة المجتمعية: منطق الكرامة مقابل منطق الحاجة

في الوعي الغربي، هناك فارق أخلاقي راسخ بين:

  • من يعتمد على الشفقة لكسب المال.
  • ومن يعرض موهبة أو جهدًا مقابل دعم طوعي.

فنانو الشوارع يُنظر إليهم كأشخاص يكافحون بطريقة راقية، عبر تقديم شيء جميل أو مُسلي. أما التسوّل، فيُربط غالبًا بالعجز أو الاستغلال أو حتى الجريمة المنظمة. هذه النظرة ليست محايدة، لكنها تكشف عن معايير اجتماعية صارمة في تعريف "الكرامة" و"الاستحقاق".

الدول تروّج للفن... وتُقيّد التسوّل

الغرب ليس فقط يتسامح مع فناني الشوارع، بل يُكرّمهم أحيانًا:

  • بعض الفنانين المشهورين بدأوا حياتهم في الشارع.
  • تُمنح جوائز أو تراخيص خاصة لبعضهم.
  • السياح ينجذبون لمشاهد الأداء في الميادين العامة، فتُصبح جزءًا من "الهوية البصرية" للمدينة.

في المقابل، يُواجه المتسوّلون الرقابة أو الطرد أو الغرامات، خاصة إن بدوا "غير مندمجين" أو من خلفيات مهاجرة. وهذا يفتح سؤالًا أكبر: هل يُحتفى بالفن لأنه فن، أم لأنه أكثر قابلية للتسويق السياحي؟

الكرامة في السلوك أم في التأويل؟

الفرق الجوهري ليس في السلوك المادي، بل في التأويل الثقافي والقانوني له. من يغني في الشارع لا يُعامل كمتسوّل لأنه:

  • يعرض شيئًا يمكن اعتباره "قيمة".
  • لا يفرض على أحد أن يعطيه.
  • يترك القرار للمارّ، ضمن علاقة طوعية.

بينما التسوّل يُرى كعلاقة مفروضة، تُثير الحرج وتُذكّر المجتمع بعجزه عن حماية أضعف فئاته.

خلاصة تحليلية: متى يصبح العطاء مشروعًا؟

الغرب يُعيد تعريف العلاقة بين من يُعطي ومن يُعطى، عبر منطق المقابل الرمزي: العطاء لا يُمنح للحاجة، بل للموهبة. فن الشارع يُقدّم كصيغة حديثة من الكفاح، أكثر قبولًا وأقلّ إحراجًا. إنه تسوّل جميل، ولكن بلغة محترمة، يُرضي الضمير ويُحافظ على صورة المدينة.

والفرق الجوهري هو أن فن الشارع يحمي كرامة من يطلب، ويمنح المانح شعورًا بالمشاركة لا بالشفقة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.