في ظلال الصراعات الكبرى، تُعَد النكبة الفلسطينية حدثًا مفصليًا لا يختزل مأساة شعب فحسب، بل يرسم صورة مكررة للظلم والتشريد عبر التاريخ العربي الحديث. النكبة ليست مجرد لحظة من الهزيمة العسكرية، بل هي طقس استمرّ، حيث اختفى الوطن، وبات الفلسطينيون أمة منفيّة بلا أرض.
كيف يُعقل أن يتحوّل شعب كامل إلى لاجئين، وأن يُحرم من حقه في العودة والتعويض، بينما تستمر سرديات القوة والاحتلال في تشكيل وعي العالم؟
النكبة ليست مآساة فلسطينية فقط، بل صرخة عربية أُخمدت، ودرس صارخ في السياسة الدولية المزدوجة المعايير.
ما الذي حدث؟
في منتصف مايو 1948، عقب انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وإعلان قيام دولة إسرائيل، اندلع نزاع دموي حوّل أكثر من 750 ألف فلسطيني إلى لاجئين في صحراء الشتات.
تم تهجير قرى ومدن بأكملها، أُحرقت المنازل، قُتل المدنيون، وعُرض السكان على خيار الهروب أو الموت.
تمّت عمليات عسكرية منظمة من قبل القوات الصهيونية، وأُجبر اللاجئون على ترك أراضيهم، بينما منعت إسرائيل حق العودة لهم، في تناقض صارخ مع القوانين الدولية.
هكذا بدأ الشتات الذي يستمر حتى اليوم، مع أكثر من 5 ملايين لاجئ فلسطيني مسجلين، يشكلون نصف الشعب الفلسطيني، يعيشون في مخيمات لاجئين في دول الجوار وأماكن بعيدة.
هل كانت النكبة مفتعلة؟ ومن المستفيد؟
النفي الجماعي لم يكن حادثًا عشوائيًا، بل جزءًا من خطة استراتيجية (خطة "دالت" والعمليات العسكرية الواسعة) لضمان سيطرة دائمة على الأرض الفلسطينية.
استفاد المشروع الصهيوني من ضعف الدعم العربي الرسمي، وانقسامات المجتمعات الفلسطينية، وغياب تدخل دولي حازم.
النكبة خدمت إقامة كيان جديد على حساب شعب مُنفي، وأعاد ترتيب موازين القوى في الشرق الأوسط لصالح الغرب وحلفائه.
كما عمّق الشتات حالة الضعف السياسي والاجتماعي للفلسطينيين، وجعل ملف اللاجئين نقطة ضغط دائمة تُستخدم كورقة تفاوض أو ابتزاز.
خلفيات الحدث: تواطؤ الاحتلال والسلطة البريطانية
ترجع جذور النكبة إلى السياسة البريطانية في فلسطين، التي دعمت الهجرة اليهودية لغايات استراتيجية، على حساب السكان الأصليين.
أشعلت بريطانيا الصراع، ثم انسحبت لتترك الفوضى التي تم استغلالها من قبل الحركات الصهيونية المسلحة.
في المقابل، كان الضعف العربي داخليًا، والافتقار لوحدة سياسية بين الدول والمجتمعات الفلسطينية، سببًا رئيسيًا في فشل مواجهة المشروع الاستعماري.
ماكينة الطرد والتهجير: قوة الاحتلال وتنظيمها
تنفيذ عمليات التهجير القسري كان منسقًا ومخططًا، استخدمت فيه أساليب العنف المباشر، الترهيب، والعمليات العسكرية المنظمة.
رافق ذلك سياسة تجريف للقرى، تدمير للممتلكات، وحملات إعلامية تهدف إلى تبرير الأعمال باعتبارها “حرب وجود”.
كانت هناك شبكات استخبارات وعسكرية صهيونية عملت على تحقيق هدف بناء دولة ذات أغلبية يهودية، حتى لو على حساب مئات الآلاف من البشر.
الأطراف المتورطة: الاحتلال الدولي والمحلي
إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي، لعبت القوى الدولية دورًا مركزيًا في تشكيل المشهد:
- بريطانيا كقوة استعمارية وأساس الأزمة.
- الأمم المتحدة التي أصدرت قرار التقسيم (1947) لكنه لم يُنفذ بإنصاف.
- الولايات المتحدة والدول الغربية التي دعمت إقامة إسرائيل سياسيًا وعسكريًا لاحقًا.
الحصيلة: لاجئون بلا وطن وذاكرة بلا سلام
النزوح الجماعي خلف أزمات إنسانية مستمرة:
- فقدان الأرض وحق الملكية.
- تشتت العائلات داخل المخيمات وفي الشتات.
- تفاقم الفقر، التهميش، وانعدام الأفق السياسي.
دفن الحقيقة: السياسة والصفقات
الملف الفلسطيني ظل رهينة للمفاوضات الدولية، وغالبًا ما استخدمت قضيته كورقة ضغط.
غياب إرادة حقيقية في محاسبة الاحتلال أو إجبار إسرائيل على تطبيق قرارات الأمم المتحدة، أعطى الضوء الأخضر للاستمرار في سياسة الاحتلال والتهجير.
المجتمع الدولي غالبًا ما أعطى أولوية لاستقرار المنطقة على حساب حقوق الفلسطينيين، مما عمّق الإحباط والغضب.
خاتمة: الذاكرة ليست فقط وجعًا، بل مقاومة
النكبة ليست مجرد مأساة تاريخية، بل رمز للمقاومة المستمرة.
حفظ الذاكرة والتمسك بالحق في العودة يشكّلان خط الدفاع الأول ضد محاولات الطمس.
لكن الحقيقة الصعبة تبقى أن فلسطين اليوم ما زالت تنتظر وعد الحرية، وأن القضية الفلسطينية لن تُحل دون مراجعة حقيقية للسياسات العالمية، واعتراف بلا جدل بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.
سلسلة: الكوارث العربية الكبرى