الكوارث العربية الكبرى: حرب الخليج الأولى (العراق – إيران)

 

في أيلول 1980، اندلعت واحدة من أطول الحروب التقليدية في القرن العشرين، بين العراق وإيران. حرب استمرت ثماني سنوات، حصدت أكثر من مليون قتيل وملايين الجرحى واللاجئين، ورسمت ملامح الانهيار القادم للمنطقة. رغم أن الصراع تم تسويقه حينها كدفاع عن السيادة العربية، إلا أنه كان من أعقد الحروب التي اختلطت فيها المصالح الإقليمية والدولية، وتحولت إلى محرقة استنزفت كل الأطراف، خصوصًا العراق. لقد كانت تلك الحرب شرارة لسلسلة من الكوارث التي عصفت بالعالم العربي خلال العقود التالية.

بداية مشتعلة وصراع هويات

اندلعت الحرب بعد توترات حدودية وصراعات أيديولوجية، حيث كان النظام العراقي يرى في الثورة الإيرانية تهديدًا مباشرًا لكيانات الحكم العربية. لكن خلف هذا العنوان، كان هناك صراع عميق على النفوذ، وعلى من سيقود المنطقة بعد انسحاب النفوذ الغربي الكلاسيكي. كل طرف رأى الآخر امتدادًا لمشروع توسعي يجب سحقه، وتحولت الجغرافيا إلى مسرح لتصفية مشاريع متصارعة.

حسابات عربية خاطئة

دعمت أغلب الدول العربية العراق في بداية الحرب، ظنًا منها أنه حاجز ضد التمدد الإيراني الشيعي، وممثل عن "الأمن القومي العربي". لكن هذا الدعم لم يكن نابعًا من رؤية استراتيجية موحدة، بل من حسابات ملكية ضيقة وخوف من عدوى الثورة. وهكذا تم تمويل حرب مدمرة بأموال الخليج، دون إدراك أن ألسنة اللهب ستصل لاحقًا إلى كل بيت عربي.

الرهانات الأمريكية المزدوجة

خلال الحرب، أظهرت الولايات المتحدة موقفًا مريبًا. فهي من جهة كانت تدّعي دعم العراق، ومن جهة أخرى زوّدت إيران بالسلاح في صفقة "إيران – كونترا" الشهيرة. واشنطن أرادت استنزاف الطرفين دون أن ينتصر أحد، لتبقى هي القوة المقررة بعد أن تنضج الفوضى. وقد نجحت في ذلك جزئيًا، إذ خرج الطرفان من الحرب منهكين، بينما دخلت واشنطن إلى الخليج كلاعب عسكري دائم.

مأساة الجنود والمدنيين

كانت حرب الخنادق والغازات السامة، حيث قُتل مئات الآلاف من الشباب العراقي والإيراني، في مشاهد تُذكّر بحروب القرن الأول. وقعت مجازر بحق المدنيين في المدن الحدودية، وتعرّضت القرى الكردية لقصف كيماوي، خصوصًا في حلبجة. لقد كانت حربًا بلا رحمة، تلاشت فيها الفوارق بين المدني والعسكري، وتحولت إلى جحيم أرضي.

نهاية دون نصر

انتهت الحرب عام 1988 دون أي مكاسب حقيقية لأي من الطرفين. لا حدود تغيرت، ولا نظام سقط. فقط الملايين من الضحايا والخسائر الاقتصادية الهائلة، وانهيار بنية الدولة العراقية التي خرجت من الحرب مثقلة بالديون والعداوات. لقد كانت تلك نهاية بائسة لحرب بدأت بشعارات النصر والعزة، وانتهت بصمت المقابر الجماعية.

تمهيد للكارثة التالية

خرج العراق من الحرب غارقًا في الديون، خصوصًا لدول الخليج. وحين طالب بإعفائه من الديون باعتباره "مدافعًا عن الأمة"، قوبل بالرفض، مما فجّر أزمة لاحقة انتهت بغزو الكويت عام 1990. بمعنى آخر، كانت حرب الخليج الأولى هي المقدمة الضرورية لحرب الخليج الثانية، ولكل ما تلاها من حصار، واحتلال، وانهيار كامل للدولة العراقية.

غياب المحاسبة وطمس المأساة

رغم حجم الكارثة، لم تتم مساءلة حقيقية عن أسباب الحرب أو جرائمها. لا تحقيقات دولية، ولا محاكمات للمتسببين في المجازر، ولا حتى اعتراف رسمي بالضحايا. لقد تم طيّ صفحة الحرب كما لو كانت خطأً إداريًا، في حين أنها كانت جريمة ممتدة بحق أجيال كاملة.

إرث مستمر من الانقسام

خلّفت الحرب إرثًا مريرًا من العداء الطائفي والقومي بين الشعوب، خصوصًا بين العرب والفرس، وبين السنة والشيعة. هذا الشرخ ما زال يُستثمر حتى اليوم لتفجير المنطقة من الداخل، وتبرير التدخلات الخارجية، وصناعة الاستقطابات التي تحوّل الشعوب إلى وقود دائم للحروب.

خاتمة: مأساة منسية لكن آثارها باقية

حرب الخليج الأولى لم تكن فقط حربًا بين دولتين، بل كانت إيذانًا بولادة مرحلة جديدة من الفوضى الموجّهة في العالم العربي. لقد سقط خلالها منطق "المعركة الواحدة" لصالح استراتيجيات التفكيك، وبدأت معها حقبة التدخلات الدولية المستدامة. إنها مأساة يجب ألا تُنسى، لأن من ينسى أخطاءه يكررها بثمن أغلى.

سلسلة: الكوارث العربية الكبرى

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡