الأردن: الوصاية تحت الابتزاز.. كيف تحوّلت إلى وظيفة إقليمية؟

الفرق بين الوصاية والدور الوظيفي

الأردن تحت الضغط: وصاية دينية أم دور أمني؟

رغم أن الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس تُقدَّم إعلاميًا كعنوان سيادي وديني رفيع، فإن واقع السياسة اليوم يشي بتحوُّل هذه الوصاية إلى دور وظيفي أمني، يتقاطع مع الهندسة الإسرائيلية للقدس والضفة الغربية، أكثر مما يتقاطع مع إرادة الفلسطينيين أنفسهم. فهل لا يزال الأردن ممسكًا بمفاتيح التأثير، أم أصبح أداةً في هندسة ما يُسمى بـ "الاستقرار الإقليمي"؟

أصل الوصاية.. رمزية الملك وشرعية النظام

تستند الوصاية الأردنية تاريخيًا إلى اتفاقيات بين المملكة الهاشمية والفلسطينيين، وتستمد مشروعيتها من الدور التاريخي لعائلة الشريف حسين، التي طالما قدّمت نفسها كحامية للمقدسات الإسلامية. هذه الوصاية لم تكن فقط شأنًا دينيًا، بل ركيزة مهمة في شرعية النظام الأردني داخليًا وخارجيًا، وورقة نفوذ في علاقاته مع واشنطن وتل أبيب.

لكن هذه الورقة لم تُستخدم دائمًا لتعزيز الموقف الفلسطيني، بل غالبًا ما وُظّفت ضمن توازنات إقليمية تحافظ على العلاقة مع إسرائيل دون أن تثير استياء الشارع العربي.

من الوصاية إلى الوظيفية: تحوّلات الدور الأردني

مع صعود المشاريع الإسرائيلية لإعادة تشكيل الوضع القائم في القدس، خصوصًا بعد 2020، دخل الدور الأردني في منحنى جديد: لم يعد حاميًا بل أصبح "منسّقًا"، يسعى لضبط التوتر، وتخفيف الغضب، ومنع الانفجار. وبدلًا من تمثيل الإرادة الشعبية العربية، بات الأردن يُطالَب بلعب دور أمني يكبح جماح المقاومة، ويتولى التنسيق المباشر مع إسرائيل وأحيانًا مع السلطة الفلسطينية في إدارة الأمن بالضفة الغربية.

تجلّى هذا التحوّل في مواقف المملكة خلال التوترات المتكررة في الأقصى، حيث بدا الخطاب الرسمي حذرًا، مترددًا، يوازن بين "القلق العميق" و"ضرورة التهدئة"، في وقت كانت فيه القدس تُستباح رمزيًا وفعليًا.

غزة كشفت كل شيء: موقف الملك تحت المجهر

حين اندلعت الحرب الأخيرة على غزة، وقعت الأنظمة العربية في اختبار علني، كشف موازينها الحقيقية. وقد كان موقف الأردن مثيرًا للجدل. فبينما خرجت مظاهرات ضخمة تُطالب بطرد السفير الإسرائيلي، ورفع الحصار عن غزة، بدا الموقف الرسمي في غاية البرود، واكتفى الملك بعبارات عامة عن "وقف التصعيد"، دون أي إشارة حقيقية لمسؤولية الاحتلال عن المجازر.

بل إن الأردن – رغم ادعاءاته بحماية المقدسات – لم يتخذ موقفًا سياسيًا حازمًا، لا على مستوى سحب السفير، ولا في مجلس الأمن، ولا حتى في التصريحات الموجهة للداخل. أما على المستوى الميداني، فاستمر التنسيق الأمني مع السلطة في الضفة، واستمرت اللقاءات غير المعلنة مع مسؤولين إسرائيليين بحجج إنسانية أو لوجستية.

الشعب الأردني خارج المعادلة الرسمية

لا يمكن فهم المفارقة الأردنية دون التوقف عند الفجوة المتزايدة بين النظام والشارع. فالأردنيون – وهم من أكثر الشعوب ارتباطًا بالقضية الفلسطينية بحكم الجغرافيا والديموغرافيا – عبّروا مرارًا عن رفضهم للتطبيع، وخرجوا في مسيرات حاشدة تطالب بقطع العلاقات مع إسرائيل، لا سيما خلال حرب غزة.

لكن الدولة الأردنية لا تُصغي، وتستمر في الالتزام باتفاقية وادي عربة، بل وتدير علاقاتها مع الاحتلال كأمر واقع. هذا التجاهل للفجوة بين السلطة والشعب يُضعف شرعية الدور الأردني، ويحوّله إلى غطاء سياسي لإسرائيل بدل أن يكون سندًا للفلسطينيين.

الضغوط الخارجية: واشنطن وتل أبيب تحدّدان الإطار

الأردن ليس حر الحركة. فمساعداته الاقتصادية مرهونة بالرضا الأمريكي، ودوره الإقليمي محكوم بقبوله في الهندسة الإسرائيلية الجديدة للمنطقة. وبالتالي، فإن أي انحراف عن الخط المرسوم يُقابَل بضغط اقتصادي أو عزلة سياسية. لهذا، فإن الدولة الأردنية تتحرك ضمن هامش ضيّق، لا يسمح لها بالتصعيد، ولا بالانحياز الصريح للفلسطينيين.

وحتى حين تحاول أن تُظهر بعض "الاستقلالية"، يكون ذلك غالبًا لأغراض إعلامية، لا سياسية، دون أي أثر عملي على الأرض.

خلاصة: وصاية بلا سيادة.. ودور بلا إرادة

الفرق بين الوصاية والدور الأمني واضح اليوم أكثر من أي وقت مضى. فبينما تقتضي الوصاية الدفاع عن الحقوق والرموز، يتحوّل الدور الأمني إلى وظيفة لضبط الإيقاع وفق الشروط الإسرائيلية. وهذا ما آل إليه وضع الأردن حاليًا: دور بلا تأثير، وصاية بلا قدرة، وتحالفات بلا دعم شعبي.

أما الخطر الأكبر، فهو أن استمرار هذا المسار يُحوّل الأردن من بوابة للقدس إلى بوابة لتطويع الضفة، ومن حامٍ للمقدسات إلى وسيط في مشاريع إعادة التشكيل الجيوسياسي للمنطقة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.