
الصوت الذي خافته السلطة
كان بإمكانه أن يعيش في رضا النظام… فقط لو سكت. لكنه اختار أن يكون صوت الناس لا بوق الدولة. تحدّث عن الظلم الاجتماعي، وتواطؤ العلماء، وقسوة السجون، ومهانة السياسة الخارجية، وتخاذل الحكّام، فصار الخطر الأكبر على دولة الصوت الواحد.
ولم يكن انتقاده مباشِرًا فجًّا، بل كانت بلاغته الممزوجة بالفكاهة والسخرية السياسية أقوى من الهتاف الصريح. كان يُضحك الناس… ليُفجّر فيهم وعيًا. ولهذا كان تأثيره أخطر من كثير من الحركات التنظيمية.
سجين المنبر
اعتُقل مرات عدة، وقضى عامًا ونصفًا في سجون السادات، تعرّض خلالها للتعذيب، ثم أُطلق سراحه دون محاكمة. لكنه لم يُهادن بعد خروجه، بل عاد إلى منبره بذات اللهجة، وبنبرة أكثر رسوخًا، حتى أصبح اسمه مرادفًا لـ"الخطيب الذي لا يُشترى".
لقد عاش في قلب منظومة أمنية لا تحتمل إلا التهليل، ومع ذلك صمد، رافعًا صوته وحده ضد العلمانية الفوقية، والتطبيع الزاحف، والفساد العام، والجبن الرسمي.
الدين الذي يُقاوم لا الذي يُبرّر
في زمن كانت فيه المؤسسة الدينية الرسمية تُشرعن الاستبداد، رفض كشك أن يكون جزءًا منها. كان يرى أن السكوت عن الظلم خيانة شرعية قبل أن تكون سياسية. لم يكن في خندقه سوى المنبر والقرآن… لكنه ربّى أجيالًا من المستمعين الذين تشكل وعيهم بخطبه المسجلة.
موته كما حياته: بلا تنازل
توفي في عام 1996، وهو في سجوده الأخيرة أثناء صلاة الضحى. ولم تسمح السلطة حتى بجنازة شعبية له، لكنها لم تستطع محو الأثر: خطبه ما زالت تُتداول، وصوته ما زال يوقظ النفوس… وكأنه لم يمت بل انتقل من منبر المسجد إلى منبر التاريخ.
خلاصة: حين تكون الكلمة مقاومة
عبد الحميد كشك كان رجلًا خرج من الفقر والعمى والحرمان، ليُصبح أكبر من كل وزارات الإعلام والشؤون الدينية مجتمعة. لم يطلب حزبًا، ولا قناةً، ولا سلطةً، بل طلب فقط أن يقول ما يراه حقًا… فصار أيقونة.
في زمن السقوط، لم يُحرّر مدينة، ولم يُؤسّس حركة… لكنه حرّر عقولًا، وأسّس وعيًا، وصاغ موقفًا أخلاقيًا نادرًا.
وذلك وحده… يكفي ليكون من رجالات هذا الزمن المأزوم.
سلسلة: رجال من زمن السقوط