رجال من زمن السقوط: نجم الدين أربكان: المهندس الذي حاول أن يُصلح ما خرّبته العلمنة

حين يُذكر اسم نجم الدين أربكان، يُقال غالبًا إنه "الأب الروحي للإسلام السياسي في تركيا"، لكن هذا التوصيف – رغم صحته الجزئية – لا يكفي. لأن أربكان لم يكن فقط زعيم حزب، بل كان مشروعًا متكاملًا لإعادة بناء الدولة الحديثة على أُسس غير غربية.

وُلد بعد سقوط الخلافة العثمانية بسنوات قليلة، في بيئةٍ تُربّى على أن الإسلام "خطر رجعي"، وعلى أن التقدّم لا يكون إلا بتقليد أوروبا. لكنه، بخلفيته العلمية والهندسية، أدرك أن المشكلة ليست في التكنولوجيا… بل في المنظومة التي تُنتج التكنولوجيا ثم تُحكم بها الأمم.

من هندسة المحركات… إلى هندسة الدولة

درس في ألمانيا، وتخصّص في المحركات والصناعات الثقيلة، وهناك رأى بعينيه كيف تبني الأمم مجدها بما يناسب ثقافتها لا بما تستعيره من الآخرين. وحين عاد إلى تركيا، لم ينخرط مباشرة في السياسة، بل أسس مشروعًا صناعيًا إسلاميًا بديلًا اسمه "ميلي جوروش" (الرؤية الوطنية)، هدفه تحرير تركيا من التبعية الاقتصادية للغرب.

السياسة بوصفها مقاومة اقتصادية

حين دخل الحياة السياسية، لم يكن خطابه تقليديًا. لم يرفع شعارات دينية مباشرة، بل طرح برنامجًا اقتصاديًا يقوم على الاستقلال الكامل عن المؤسسات الغربية، وعلى التعاون مع العالم الإسلامي بدل الارتهان لأوروبا.

أسس حزب "الرفاه"، وفاز في الانتخابات، ثم صار أول رئيس وزراء تركي ذي خلفية إسلامية منذ سقوط الخلافة. وكانت خطوته الكبرى هي محاولة إنشاء "مجموعة الثمانية الإسلامية" (D8)، كبديل لمنظمة التعاون مع الغرب. وهنا بدأ العدّ التنازلي لإسقاطه.

الإسلام كحلّ… لا كشعار

لم يكن أربكان خطيبًا عاطفيًا، بل رجل دولة هادئ وعميق. تحدّث عن "القروض الربوية" بوصفها سلاحًا استعماريًا، وعن "العلمانية التركية" بوصفها جسرًا لابتلاع الأمة من الداخل. لهذا لم يكن خطره في خطبه، بل في رؤيته المتكاملة للدولة الحديثة التي لا تنسلخ عن دينها.

الانقلاب الناعم: حين لا يتحمل النظام وجود بديل

سقط أربكان بعد حملة ممنهجة من الجيش والإعلام ورجال الأعمال، في ما يُعرف بـ"الانقلاب الأبيض" عام 1997. لم يُعدم كما فعلوا مع مندريس، بل حاصروه قضائيًا، ومنعوه من العمل السياسي، وحلوا حزبه… لكن فكرته لم تمت.

بل على العكس، تلاميذه – ومنهم أردوغان وعبد الله غول – وصلوا إلى الحكم لاحقًا، لكنهم ساروا في اتجاهٍ آخر تمامًا، أكثر براغماتية وأقل جذرية… وكأن أربكان زرع شيئًا، لكن الثمار نضجت في غير موسمه.

خلاصة: حين يكون المشروع أثقل من السلطة

لم يكن أربكان رجل سلطة، بل رجل مشروع. رجل أراد أن يُعيد للعالم الإسلامي ثقته بنفسه، وبقدرته على إنتاج نموذج حضاري لا يستعير من الغرب بل يتجاوزه. وربما لهذا السبب بالذات… أزاحوه.

لكنه ظلّ في الذاكرة لا كخاسر، بل كمهندس الحلم الإسلامي الحديث في زمن السقوط. لم ينكسر، بل انسحب بكرامة. وكان يعرف أن المشروع لا يُقاس بعمر الحكومة، بل بعُمق الفكرة.

سلسلة: رجال من زمن السقوط

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.