في مشهدٍ عالميٍ يتغيّر بسرعة مذهلة، لم تعد أدوات الهيمنة الغربية قادرة على فرض سردياتها كما في السابق. فمن أوكرانيا التي تحوّلت إلى استنزاف طويل، إلى غزة التي كشفت زيف "الشرعية الدولية"، وصولًا إلى أفريقيا التي تنتفض على الاستعمار المقنّع، يواجه الغرب اليوم أزمة عميقة في تماسك مشروعه الإمبريالي. لم تعد القوة العسكرية وحدها كافية، ولا الإعلام قادرًا على التغطية، ولا المؤسسات الدولية تملك الهيبة. فهل نشهد لحظة ما بعد الهيمنة؟ أم أن الغرب يعيد تشكيل أدواته لتأبيد النفوذ بوجه جديد؟
تهاوي سردية "القيم" في أوكرانيا
حين اندلعت الحرب في أوكرانيا، قدّمها الغرب على أنها معركة من أجل "الديمقراطية" و"سيادة الدول". لكن طول أمد الصراع، والتورط العسكري المتزايد، وانهيار خطاب "الردع الحاسم"، كل ذلك جعل الغرب يبدو وكأنه يستخدم أوكرانيا كأداة لإضعاف روسيا، لا كدولة ذات سيادة. تكشّف الغطاء عن المصلحة الباردة خلف الشعارات، وأصبحت الأزمة مرآة تُظهر بوضوح الفارق بين القيم المُعلنة والمصالح الحقيقية.
غزة: السقوط الأخلاقي الكامل
لا شيء أسقط قناع الغرب كما فعلت غزة. أمام مجازر يومية موثّقة بالصوت والصورة، وبشهادات منظمات أممية، وصرخات من داخل المستشفيات والمخيمات، اختار الغرب الصمت أو الدعم الكامل للمعتدي. هنا لم يكن الانحياز سياسيًا فقط، بل انكشافًا أخلاقيًا تامًا. لم تعد مقولات "حقوق الإنسان" ولا "المدنيين أولًا" إلا صدى أجوف، لأن الغرب نفسه كان يرسل السلاح، ويمنع وقف إطلاق النار، ويعطل قرارات مجلس الأمن.
غزة أظهرت للعالم، وخاصة الشعوب في الجنوب العالمي، أن المعايير الدولية ليست سوى أدوات لشرعنة الهيمنة، تُفعّل ضد الخصوم وتُعطّل أمام الحلفاء، حتى لو كانوا مجرمي حرب.
أفريقيا: العودة إلى الوعي السياسي
الانقلابات المتتالية في دول الساحل الأفريقي، من مالي إلى النيجر إلى بوركينا فاسو، لم تكن مجرد تغييرات في الحكم، بل تمردًا على النموذج الاستعماري الحديث: القواعد العسكرية الفرنسية، اتفاقيات التعدين غير العادلة، والعملة المربوطة بفرنسا (الفرنك الأفريقي). هذه الدول بدأت تقول لا، وبدأت تتجه شرقًا نحو روسيا والصين، طلبًا لتوازن جديد.
الرد الغربي لم يكن بإعادة النظر، بل بمحاولات تأديب عبر العقوبات والتهديدات، مما عمّق شعور شعوب تلك الدول بأن الغرب لا يفهم سوى منطق التبعية. هنا ظهرت حدود الهيمنة بوضوح: لم تعد الشعوب ترضى بدور التابع، ولا النخب تقبل بالوصاية.
التمزق داخل المنظومة الغربية
حتى داخل المعسكر الغربي، بدأت ملامح التصدّع. من تزايد النزعات اليمينية المتطرفة في أوروبا، إلى التباين في الأولويات بين واشنطن وحلفائها، وتراجع الالتفاف الشعبي حول السياسات الخارجية. فالناخب الغربي بات يسأل: لماذا نمول الحروب؟ لماذا ندعم أنظمة ترتكب جرائم؟ ماذا جنينا من كل هذا الإنفاق؟
هذه الأسئلة لم تكن مطروحة قبل عقدين. لكنها اليوم تعكس حالة تعب واستنزاف داخلي تهدد وحدة المشروع الغربي نفسه.
الهيمنة لم تنتهِ... لكنها تنكسر
لا يعني كل ما سبق أن الغرب خرج من المعادلة، أو أن الهيمنة قد سقطت تمامًا. لكن المؤكد أنها لم تعد مطلقة. أصبحت مُزاحَمة، مضطربة، تُجابه بالرفض من الشارع في الجنوب العالمي، وبالتشكيك من الداخل. إنها لحظة تحوّل من الهيمنة الأحادية إلى صراع متعدد الأقطاب، لا تُحسم فيه المعارك فقط بالسلاح أو المال، بل بالرواية، بالشرعية، وبالقدرة على الإقناع.
وهنا تحديدًا، يخسر الغرب أرضه الأسرع.
خاتمة:
ما بعد الهيمنة ليس عالمًا خاليًا من الهيمنة، بل عالمٌ تتنافس فيه القوى الكبرى على الشرعية والنفوذ بوسائل متباينة. لكنه أيضًا عالمٌ فتحت فيه الشعوب أعينها، وبدأت تعيد صياغة وعيها بعيدًا عن إملاءات الإمبراطوريات. من أوكرانيا إلى غزة إلى أفريقيا، لم يعد الصمت ممكنًا، ولم يعد الخوف كافيًا. إنها مرحلة إعادة تعريف العالم، ومن لا يسمع هذا التحوّل... سيسقط في صراخه.