
الاقتصاد كسلاح: من العقوبات إلى الحصار الممنهج
منذ عقود، كانت العقوبات الاقتصادية تُقدَّم كإجراء سياسي لإجبار الأنظمة على "تغيير السلوك"، لكن في الواقع، سرعان ما تحوّلت إلى أدوات عقاب جماعي، تستهدف البنية التحتية والقطاع الصحي والغذائي، وتدفع الشعوب إلى الجوع والانهيار. النموذج الكلاسيكي هو العراق في التسعينات، لكن اليوم تُستخدم الأدوات ذاتها – بطريقة أكثر تطورًا – ضد دول وفصائل ومجتمعات بأكملها.
أصبحت لوائح العقوبات الأمريكية والأوروبية تشمل مصارف، شركات، كيانات إعلامية، وحتى الأفراد، بما يشبه حظرًا وجوديًا، لا سياسيًا فقط. والهدف لم يعد الضغط فقط، بل التفكيك الشامل.
غزة: الحصار بوصفه حالة دائمة من الحرب
في حالة غزة، الحصار ليس أداة ضغط وقتية بل واقع يومي مستمر منذ أكثر من 17 عامًا. لم يكن الهدف فقط منع الأسلحة، بل خنق الحياة: تقنين الكهرباء، تقييد الواردات، التحكم في الدواء، منع الصيد، إغلاق المعابر. لقد أصبح الحصار هنا نظامًا ممنهجًا لتحويل الحياة إلى معاناة، مع الحفاظ على "الحد الأدنى للبقاء" بما لا يحرج صورة الاحتلال دوليًا.
وكلما فشلت آلة الحرب في كسر المقاومة عسكريًا، عاد الحصار ليكون الورقة المفضّلة في المعركة.
أدوات غير تقليدية: المال، الغذاء، الإنترنت
في صراعات العصر، لم تعد الحرب تكتفي بالعقوبات الكلاسيكية، بل دخلت أدوات جديدة الحلبة:
- التحكم في سلاسل التوريد: كما حدث في لبنان وسوريا، حيث يُستخدم الوقود والطحين كسلاح.
- منع التحويلات المالية: كما في الحالة الفلسطينية واليمنية، حيث يُمنع المواطن العادي من تلقّي الدعم أو المساعدة من الخارج.
- التحكم في الإنترنت والمنصات الرقمية: إغلاق الحسابات البنكية، حظر تطبيقات التواصل، وتقييد المحتوى المقاوم إعلاميًا.
هذه الأساليب تجعل من حياة الناس حربًا باردة لا تهدأ، لكنها تُنهك ببطء.
شرعنة الخنق: كيف تُبرَّر الجرائم اقتصاديًا؟
اللافت أن هذه الأدوات تُمارس تحت غطاء قانوني ودبلوماسي دولي، بل وبخطاب أخلاقي أحيانًا. تُصوَّر العقوبات على أنها "حماية للقيم"، بينما هي تُطيح بالمستشفيات والمدارس. يُقال إن الحصار يستهدف "الإرهاب"، بينما في الواقع يُمنع الأطفال من السفر للعلاج، وتُمنع طلاب الجامعات من إتمام تعليمهم.
إنها حرب بلا قنابل، لكن آثارها لا تقل دمارًا عن القصف.
كيف تغيّرت قواعد الاشتباك؟
التحوّل الأخطر في الحصار كسلاح، هو أنه بات جزءًا من المعركة الشاملة، وليس مرحلة تمهيدية. لم تعد الحرب تسبق الحصار، بل أصبح الحصار أداة دائمة، تُستخدم مع الإعلام، والضغط السياسي، وحتى الابتزاز بالمساعدات. بل إن بعض الدول لم تعد بحاجة للحرب أصلًا: يكفي خنق الخصم اقتصاديًا وشيطنته إعلاميًا، ثم انتظار انهياره.
بمعنى آخر: تغيّرت قواعد الاشتباك... لتصبح أكثر "نظافة" في المظهر، وأكثر قذارة في الجوهر.
هل من مقاومة ممكنة؟
رغم كل ذلك، أثبتت بعض الشعوب والفصائل أن المقاومة ممكنة:
- الاعتماد على الاكتفاء الذاتي في الزراعة والصناعة البديلة.
- استخدام العملات البديلة والعملات الرقمية للتحايل على النظام المالي الغربي.
- خلق شبكات دعم شعبي داخلية وخارجية تقوم على التضامن لا على المانحين.
لكن هذه المحاولات تظل محفوفة بالمخاطر، وتواجه حربًا مضادة شرسة، خاصة أن القوى الكبرى تعتبر "الاعتماد الذاتي" ذاته تهديدًا لنفوذها.
خاتمة:
لم تعد الحرب اليوم تبدأ بإعلان من وزارة الدفاع، بل بقرار من وزارة الخزانة. الحصار لم يعد حالة مؤقتة، بل نمط إدارة للصراعات الطويلة، يُراهن على كسر الوعي قبل كسر السلاح. وهنا يظهر السؤال الأخلاقي الكبير: كيف يمكن للعالم أن يُدين القصف ويصمت على التجويع؟ وكيف تُقبل دولٌ بقتل شعب بأكمله... دون أن تطلق رصاصة واحدة؟
إنها حرب بلا صوت، لكنها تقتل بالبطء... وبالشرعية.