اقتصاد المقاومة: كيف تنجو الشعوب تحت النيران؟

عندما تُقصف المدن وتُحاصر الشعوب وتُقطع عنها الكهرباء والغذاء والدواء، يظن المتفرّج أن الحياة قد توقفت. لكن المفارقة أن الشعوب التي تتعرض للحصار والقصف لا تنكسر دائمًا... بل تبتكر. في قلب الحصار يولد اقتصاد بديل، لا يعتمد على السوق الحر ولا على المؤسسات الدولية، بل على مزيجٍ من الاكتفاء الذاتي، والدعم الشعبي، والتحايل على أنظمة الهيمنة. إنه اقتصاد المقاومة، حيث يتحوّل البقاء إلى فعل سياسي، والاستمرار في الحياة إلى شكل من أشكال التمرّد.

بين الاقتصاد الكلاسيكي واقتصاد النجاة

الاقتصاد كما تعرّفه الكتب، يقوم على العرض والطلب، والأسواق، والتصدير، والعملة، والمصرف. لكن حين تُقصف الأسواق، وتُغلق الحدود، وتُنهار البنوك، يصبح الحديث عن هذا النموذج عبثًا. هنا، يظهر نمط آخر من الاقتصاد: اقتصاد النجاة.

اقتصاد المقاومة لا يقوم على النمو، بل على الصمود. لا يتعامل مع "المستهلك" كرقم، بل كإنسان عليه أن يعيش رغم كل شيء. لا يُدار من البورصة، بل من الطحين المُهرَّب، والماء المُكرَّر، والحلقة الصغيرة التي تُنقذ الحي من الجوع.

غزة نموذجًا: حين تتحوّل الأنفاق إلى شرايين حياة

في قطاع غزة، حيث الحصار ممتد منذ 2007، طوّرت المقاومة شبكة أنفاق لم تكن فقط لأغراض عسكرية، بل اقتصادية أيضًا. عبر هذه الأنفاق، دخل الغذاء والوقود، وانتعشت صناعات صغيرة، وقامت تجارة موازية مكّنت عشرات الآلاف من العمل والبقاء.

لكن الأهم من ذلك، أن هذا الاقتصاد لم يكن خاضعًا لشروط "المانحين" ولا للرقابة الدولية، بل كان قائمًا على منطق الاكتفاء والاعتماد على النفس. صحيح أنه اقتصاد محفوف بالمخاطر، لكنه أثبت أن الحياة ممكنة... حتى تحت التراب.

الزراعة المقاومة: الأرض كسلاح بقاء

في أكثر من ساحة مقاومة، من لبنان إلى اليمن إلى غزة، شكّلت الزراعة المحلية حائط صد ضد الحصار. فالأرض هنا ليست فقط مصدر غذاء، بل فعل مقاومة. عندما تزرع في ظل القصف، فأنت تقول للاحتلال: "لن أجوع".

تم اعتماد الزراعة المنزلية، والمشاتل الصغيرة، وأساليب الزراعة بدون تربة (hydroponics)، وأحيانًا تربية الدواجن داخل البيوت، لتأمين الغذاء الأساسي بعيدًا عن السوق التي تسيطر عليها القوى المانعة.

العملة والتمويل: حين يصبح المال مقاومة

أحد أبرز أشكال الضغط هو تجميد الحسابات، وملاحقة الحوالات، ومنع التمويل. هنا ظهر دور الاقتصاد الشعبي والتمويل الأهلي، حيث أصبحت التبرعات الصغيرة، والمساهمات المجتمعية، وحملات الدعم من الشتات، هي شريان الحياة الحقيقي.

في بعض الحالات، تم استخدام العملات المشفّرة لتجاوز الرقابة، أو إنشاء صناديق داخلية تعتمد على الزكاة أو الوقف، لإدارة الدعم بعيدًا عن أعين الأجهزة الدولية.

الابتكار تحت النار: التكنولوجيا المحلية والصناعة البديلة

في ظروف الحرب، يتعذّر استيراد كثير من المواد، خاصة ذات الاستخدام المزدوج. هذا أجبر المجتمعات المقاومة على تطوير صناعات محلية بديلة. من تصنيع الطوب البديل للبناء، إلى تطوير أجهزة طبية بسيطة بمواد أولية، بل وحتى إنتاج الوقود من الزيوت المستخدمة.

ليس الهدف الجودة العالية، بل الكفاءة والإبقاء على الحياة. هنا يتحوّل كل شيء إلى مورد: النفايات إلى سماد، الماء الرمادي إلى ريّ، والمولدات المعطّلة إلى مصدر كهرباء متقطّع... لكنه كافٍ للاستمرار.

هل يمكن تعميم هذا النموذج؟

اقتصاد المقاومة ليس قابلًا للتصدير كما هو، لكنه يقدّم دروسًا للعالم:

  • إن الاقتصاد ليس محصورًا في أدوات المؤسسات الدولية.
  • إن الاعتماد على النفس، ولو مؤقتًا، ممكن.
  • إن التضامن المجتمعي أقوى من كل برامج "الإغاثة المشروطة".
  • وإن الحياة لا تقبل أن تكون رهينة لمن يقرّر مَن يستحق الطعام ومن لا يستحق.

خاتمة:

حين ينهار السوق، لا تنهار الإرادة.
وحين تُغلق البنوك، تفتح الأبواب الصغيرة في الأزقّة لتُوزّع الخبز سرًا.
اقتصاد المقاومة ليس منظومة مكتملة، لكنه "الرد" الشعبي الطبيعي على منطق الحرب: إذا كانت الحرب تريدك أن تتوقّف عن الحياة... فإنك تواصل الحياة رغم كل شيء.
هذا هو المعنى العميق: أن تنجو، لا لأنك قوي، بل لأنك لا تملك خيارًا آخر سوى أن تظل واقفًا.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.