الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية: بين الرمزية السياسية والواقع الاحتلالي

في خطوة أثارت جدلًا دوليًا واسعًا، أعلنت فرنسا رسميًا عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025. ورغم أن هذه الخطوة تحمل طابعًا رمزيًا قويًا، فإنها تفتح الباب لسؤال أعمق: هل يعني هذا الاعتراف شيئًا للفلسطينيين على الأرض؟ أم أنه مجرّد محاولة غربية لتخفيف الضغط الأخلاقي المتزايد تجاه الصمت عن المجازر المتواصلة في غزة؟

الاعتراف… بعد أن غرق المركب!

فرنسا، الدولة الأوروبية ذات الثقل الدبلوماسي، تأتي متأخرة بعد أكثر من 140 دولة اعترفت بدولة فلسطين سابقًا. لكنها تبقى أول دولة من مجموعة السبع تُقدِم على هذا الاعتراف رسميًا في هذا التوقيت الحرج. وتعلّل باريس هذه الخطوة بـ"التزامها بحل الدولتين"، و"حق الفلسطينيين في تقرير المصير"، و"ضرورة عزل حماس وتعزيز السلطة الشرعية"، بحسب تصريحات الخارجية الفرنسية.

لكن ما لا يُقال صراحة هو أن هذه الخطوة تأتي تحت ضغط أخلاقي وإعلامي عالمي بعد المجازر في غزة، وتراجع ثقة الرأي العام الفرنسي بالسياسة الخارجية لحكومته، خصوصًا بين الشباب وجاليات المهاجرين. ومن هنا، يصبح الاعتراف محاولة لتعديل صورة فرنسا لا لتعديل واقع فلسطين.

هل يُغيّر هذا شيئًا في حياة الفلسطينيين؟

من الناحية الواقعية، الجواب المؤلم هو: لا.

فرغم أن الاعتراف يُشكّل خطوة سياسية لا يُستهان بها، فإن الاحتلال الإسرائيلي لا يزال يُمسك بمفاصل الأرض والمعابر، ويواصل الاستيطان والقصف والتجويع. فلا وجود لدولة فلسطينية فعلية على الأرض، ولا سلطة ذات سيادة مستقلة، بل واقع من السيطرة العسكرية والانقسام السياسي الداخلي والحصار المتعدد الأوجه.

كما أن الانقسام الفلسطيني بين سلطة رام الله وحكومة غزة يُفرغ أي اعتراف دولي من مضمونه الفعلي، ويُحول القضية إلى مجرد ورقة تفاوض في يد الأنظمة، لا مشروع تحرر وطني.

هل سترضخ إسرائيل؟ أم تفعل ما تشاء؟

واقع الاحتلال الصهيوني يكشف حقيقة لا يمكن تجاهلها: إسرائيل لا تعبأ باعترافات دولية إن لم تُترجم إلى أدوات ضغط حقيقية. فالدولة التي لم تحترم قرارات مجلس الأمن لعقود، ولا اتفاقيات جنيف، ولا ميثاق الأمم المتحدة، لن تتراجع عن سياساتها التوسعية بسبب بيان فرنسي أو نداء أوروبي.

إسرائيل مدعومة بـ:

  • الفيتو الأمريكي الذي يمنع أي إدانة حقيقية في مجلس الأمن.
  • سلاح أمريكي مفتوح دون شروط، حتى خلال ارتكاب المجازر.
  • غطاء دبلوماسي وإعلامي غربي يُصوّر الضحية كمعتدٍ والمعتدي كـ"مدافع عن نفسه".

ولذلك، فإن هذا الاعتراف، مهما كان صداه الإعلامي، لا يُشكّل رادعًا فعليًا، بل قد تستخدمه إسرائيل لتزيد من عنادها، كما فعلت عقب اعتراف دول مثل إسبانيا وأيرلندا والنرويج.

فرنسا: بين المصالح والتوازنات

فرنسا، كما هو حال كثير من الدول الغربية، تُحاول التوازن بين دعم "حق الفلسطينيين" و"أمن إسرائيل"، لكن هذا التوازن لا يصمد أمام الحقيقة: لا يمكن دعم المظلوم والظالم في آنٍ واحد.

الاعتراف الفرنسي يسعى إلى:

  • تعزيز السلطة الفلسطينية كبديل عن حماس.
  • تخفيف الضغوط الشعبية داخل فرنسا بعد المواقف المتخاذلة من الحرب على غزة.
  • قيادة موجة أوروبية تعيد الاعتبار للدبلوماسية الغربية بعد فضيحة التواطؤ.

لكنه يبقى محاولة لإدارة الأزمة لا لحلّها.

وأين السلام في كل ذلك؟

الواقع الفلسطيني لا ينتظر اعترافًا من عواصم غربية، بقدر ما يحتاج إلى:

  • وقف فوري للعدوان والحصار.
  • تفكيك منظومة الاحتلال بالكامل.
  • محاسبة مجرمي الحرب وليس مكافأتهم بالمفاوضات.
  • وحدة وطنية فلسطينية تنبثق من مشروع مقاومة حقيقية، لا مجرد تنسيق أمني أو استجداء دبلوماسي.

أما "السلام" الذي تتحدث عنه العواصم الغربية، فهو في أحسن أحواله سلام للمحتل… لا للمُحتَل.

خاتمة: رمزية بلا سيادة

الاعتراف الفرنسي بالدولة الفلسطينية يحمل رمزية لا شك فيها، ويُمكن أن يُعيد الزخم السياسي للقضية دوليًا، لكنه في الوقت نفسه لا يُغيّر من معادلة الاحتلال شيئًا ما لم يكن جزءًا من مشروع دولي يُلزم إسرائيل بتطبيق القانون الدولي.

أما في ظل موازين القوى الحالية، فإن إسرائيل ستواصل ما تريده، بدعم أمريكي، وبصمت أوروبي انتقائي، وبمجتمع دولي يُدين في العلن ويُسلّح في الخفاء.

لكن وعي الشعوب، ومقاومة الفلسطينيين، وانكشاف النفاق الغربي… قد يكون هو الاعتراف الحقيقي الوحيد الذي يُمهّد للحرية الحقيقية.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.