الحال الذي يُصعّب على الكافر: غزة في مرآة الضمير الإنساني

كانت عبارة "حاله يُصعُب على الكافر" تُقال للتعبير عن بلوغ الحزن مداه، والمأساة منتهاها. لكن هذه المقولة لم تعد مجازًا بل تحوّلت إلى حقيقة دامغة، بعدما تحوّلت غزة إلى جرح مفتوح في ضمير البشرية. لقد أصبح الوضع هناك من القسوة بحيث لم يعُد يُحتمل حتى من قِبل شعوبٍ لا علاقة لها بالإسلام ولا بفلسطين، ولا تُشارك الفلسطينيين لا دينًا ولا هوية، لكنها تشترك معهم في الفطرة الإنسانية.

في غزة، لم يعد القصف وحده هو القاتل، بل الجوع، والبرد، والعطش، ودفن الأحياء تحت الركام بلا ضوء أو دواء. هناك، تتهاوى أعمدة الحياة اليومية، ويتحوّل الأطفال إلى جثث تنتظر كاميرا توثّقها، أو لُعبة دامية تُستخرج من بين الأنقاض. الوضع بلغ من السوء ما يجعل شعوبًا من مختلف الأديان والثقافات، ممن لا تربطهم أي خلفية دينية بالقضية، يشعرون بأن ما يحدث لا يُطاق ولا يُغتفر.

المفارقة أن هذه المأساة لا تحدث في زاوية منسية من التاريخ، بل على مرأى ومسمع العالم الذي ادّعى طويلاً الدفاع عن "حقوق الإنسان". فهل هذه الحقوق محصورة بجغرافيا معينة؟ أم أنها تتبخر حين يكون الضحية لا يوافق مصالح الهيمنة الدولية؟

ما يجري في غزة ليس فقط جريمة حرب، بل امتحان أخلاقي عالمي. وما يُرتكب من صمت، ومن تواطؤ، ومن تبرير، ليس أقلّ إجرامًا من القصف ذاته.

1. من المأساة إلى الفضيحة الأخلاقية

ما يحدث في غزة ليس مجرّد حصار ولا "نزاع مسلح"، بل تجويع جماعي، وتدمير ممنهج، وقطع شامل لكل مقوّمات الحياة. أكثر من مليون طفل يُحرمون من الغذاء والماء والرعاية، آلاف العائلات تُباد كاملة، وأحياء كاملة تُمحى من الخريطة.

لكن الأخطر من الجريمة نفسها، هو الصمت العالمي عنها، أو تبريرها بلغة مزدوجة: "الدفاع عن النفس"، "ضربات دقيقة"، "ردع الإرهاب". إنها ليست مأساة إنسانية فحسب، بل فضيحة أخلاقية للمنظومة الدولية كلها، التي تدّعي حماية حقوق الإنسان، بينما تتغاضى عنها حين يُذبح أصحاب الأرض الحقيقيون.

2. ازدواجية المعايير: حين تسقط القيم أمام المصالح

تتعامل القوى الكبرى والمنظمات الحقوقية مع الضحايا على أساس هويتهم السياسية والدينية، لا على أساس إنسانيتهم. فلو كانت نفس المجازر تحدث بحق شعب أوروبي، أو حليف للغرب، لكانت العواصم الكبرى قد انتفضت، واستُدعيت الجيوش، وفُرضت العقوبات.

لكن حين يكون الضحية فلسطينيًا، تتحوّل القيم إلى مجرد شعارات مرنة تُعدّل حسب الحاجة. وهنا يظهر الفارق الصارخ بين ما يُقال وما يُفعل، بين ما يُعلَن في المؤتمرات الدولية، وما يُطبّق في الميدان.

3. التضامن الإنساني يتجاوز الخطاب الرسمي

رغم كل هذا، لم يخفت الصوت الإنساني الحقيقي. فقد خرجت شعوب من أمريكا اللاتينية إلى آسيا، ومن إفريقيا إلى أوروبا، لتُعبّر عن تضامنها، لا انطلاقًا من انحياز ديني أو قومي، بل من وجع إنساني نقي لا يحتمل رؤية الأطفال يُدفنون تحت الركام.

هذا التضامن العابر للحدود يكشف أن الضمير الجمعي للشعوب لا يزال حيًّا، في مقابل موت الضمير الرسمي للدول المتحضّرة التي تبرّر المجازر باسم السياسة.

4. امتحان الضمير العالمي: من ينجح ومن يسقط؟

غزة اليوم ليست مجرد قضية فلسطينية، بل مرآة كاشفة لانهيار المعايير الأخلاقية الدولية. إنها اختبار لا ينجح فيه إلا من يجرؤ على قول الحق، ولو كلفه ذلك خسارة التحالفات والمصالح.

لقد أثبتت غزة أن ما يُسمّى "النظام الدولي" ليس سوى هندسة مصالح، وأن الشعارات الكبرى مثل "حقوق الإنسان" و"العدالة الدولية" تنهار سريعًا حين تصطدم بجدار الاحتلال المدعوم سياسيًا وعسكريًا من القوى الكبرى.

5. الإعلام الغربي: شريك في الجريمة لا مجرد راوي لها

في كل حرب، يكون الإعلام لاعبًا محوريًا، لكن في غزة، تجاوز الإعلام الغربي دوره التقليدي كناقلٍ للحدث، ليصبح مهندسًا للسردية، ومُلمّعًا للقاتل، ومُجرّمًا للضحية. لم يكن الصمت هو المشكلة، بل اللغة التي اختارها لتغطية المجازر:

  • "ضربات إسرائيلية على أهداف إرهابية"،
  • "مواجهات عنيفة مع حماس"،
  • "الوضع الإنساني المعقّد"،
  • "نزاع طويل الأمد"...

بهذه العبارات المضلّلة، يُغسل الدم، ويُخفى القتل تحت غلالة من التعميم والتجريد. فالطفل الذي يُنتشل من بين الأنقاض لا يُذكر اسمه، ولا قصته، بل يُختزل في "ضحايا مدنيين" ضمن "تبادل إطلاق نار".

الاحتلال لا يُذكر إلا ضمن جمل مشروطة، والمجازر لا تُعرض إلا في سياق "ردّ الفعل"، أما حق المقاومة فيُربط بالإرهاب، رغم أن القانون الدولي ذاته يقرّ به تحت الاحتلال.

هذه السردية المصمّمة بعناية لا تبرّر فقط ما يحدث، بل تخلق وعيًا زائفًا لدى الجمهور الغربي، وتُعيد تشكيل الضحية كمتّهم، والمجرم كمدافع عن النفس.

إن الإعلام الغربي – بكل قنواته الكبرى – لم يعكس الواقع، بل شارك في صناعته، من خلال انتقاء المصطلحات، وتعميم السرديات، وتقديم القتل كضرورة "مؤسفة" من أجل الأمن، لا كجريمة حرب متواصلة.

وهكذا، لم يكن الإعلام مجرد مرآة للأحداث، بل أصبح سلاحًا ناعمًا في يد المشروع الاستعماري الحديث، يُشكّل الوعي، ويُطمس الحقيقة، ويُعيد هندسة الرواية.

خاتمة: حين يصبح الصمت خيانة

"حاله يصعب على الكافر"... عبارة بسيطة لكنها تلخّص كل شيء. فما يعيشه أهل غزة اليوم لا يُقاس فقط بعدد الشهداء، أو حجم الأنقاض، بل بمدى الفجوة بين الإنسانية كمبدأ، والإنسانية كأداة انتقائية تُستخدم حين تتوافق مع المصلحة.

الصمت لم يعد حيادًا، بل تواطؤًا صريحًا. والتبرير لم يعد دبلوماسية، بل خيانة للقيم. وغزة ستبقى – رغم الجراح – شاهدًا حيًّا على من صمد، وعلى من سقط من ضمير الإنسانية.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.