من يفرض التطبيع؟ ومن يُقصى من معادلة القرار؟

في خضم التهافت على تطبيع العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي، تتكرّر جملة مضلّلة في الخطاب الرسمي العربي: "التطبيع خيار سيادي". لكن الواقع يُظهر أن هذا "الخيار" لا يصدر عن الإرادة الشعبية، ولا ينبع من مصلحة وطنية صادقة، بل يُفرض من منظومة تتشابك فيها مصالح داخلية وخارجية، حيث تُدار القضية الفلسطينية في غرف مغلقة، وتُقصى منها الشعوب، ويُعاد تعريف العدو وفق خرائط جديدة ترسمها مراكز النفوذ لا صناديق الاقتراع.

أولًا: من يفرض التطبيع؟

1. الأنظمة المرتبطة بالهيمنة الغربية

التطبيع لا يأتي بوصفه سياسة مستقلة، بل كجزء من معادلة أكبر تُسمى "الشرعية الدولية"، حيث يُشترط على الأنظمة العربية، خصوصًا تلك الهشة أو التابعة، أن تُقدّم التطبيع كبوابة للاعتراف الغربي، وضمانة للبقاء السياسي.
هكذا تتحوّل العلاقة مع الاحتلال إلى بطاقة عبور إلى واشنطن، أو حماية من العواصف الداخلية.

2. الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي

القوى الغربية، وعلى رأسها أمريكا، لا تمارس فقط ضغطًا مباشرًا، بل تدير مشروعًا استراتيجيًا لـ"إعادة تشكيل المنطقة"، تكون فيه إسرائيل جزءًا من "الاستقرار"، فيما تُعاد صياغة الصراعات بحيث يُعاد تعريف العدو: من إسرائيل إلى إيران، ومن الاستعمار إلى الإرهاب.
وبهذا، يُقدَّم التطبيع كـ"حاجة أمنية" لا كخيانة سياسية.

3. إسرائيل كمشروع وظيفي لا كدولة طبيعية

إسرائيل لا تبحث فقط عن سلام، بل عن تطبيع وظيفي يضمن الهيمنة الإقليمية، عبر اتفاقيات أمنية، واختراقات استخباراتية، ومشاريع اقتصادية عابرة للحدود.
التطبيع، بالنسبة لها، ليس اعترافًا، بل إعادة هندسة للمنطقة تجعلها مركزًا محوريًا، وتتجاوز بها القضية الفلسطينية تمامًا.

4. الإعلام الرسمي والمنصّات المموّلة

تُشنّ حملات مدروسة لتطبيع الوعي قبل تطبيع السياسة. يُقدَّم الاحتلال في الإعلام كدولة عادية، تُروَّج لها عبر الأفلام والدراما، وتُستبعد القضية الفلسطينية من التداول.
كل صوت يرفض يُشيطن، ويُوصم بـ"التحريض"، أو "التطرّف"، أو "العدمية".

5. رأس المال والشركات العابرة للحدود

طبقة من رجال الأعمال ترى في التطبيع منفذًا للربح، وممرًا للتكنولوجيا، وأداةً لاختراق الأسواق.
وهكذا تتحوّل المبادئ إلى سلع، وتُختزل فلسطين إلى "عقبة في طريق التنمية".

ثانيًا: من يُقصى من القرار؟ الشعوب المستبعَدة

الشعوب العربية، في غالبيتها، لا تؤمن بشرعية التطبيع، وتُعبّر عن رفضها كلما أُتيحت لها الفرصة.
لكن القرار السياسي مغلق، معزول، محتكر من نُخب لا تمثل وجدان الناس. فحتى أدوات التعبير السلمي، كالمقاطعة أو التظاهر، تُمنع أو تُشيطن، ويتم تصوير الرفض الشعبي كـ"جهل سياسي" أو "تطرف أيديولوجي".

ثالثًا: هل هو خيار أم إملاء؟

التطبيع في صورته الواقعية ليس خيارًا حرًّا، بل إملاء استراتيجي ضمن منظومة التبعية.
هو إعادة تموضع للأنظمة داخل خريطة إقليمية تُدار من الخارج، يُعاد فيها تعريف الحليف والعدو، وتُختزل فيها السيادة إلى مجرّد توقيع على اتفاق.

خاتمة

التطبيع ليس قرارًا سياديًا، بل أداة هندسة سياسية تُستخدم لترسيخ الهيمنة وإخضاع الإرادة الشعبية.
هو مشروع تُديره العواصم الكبرى، وتنفّذه الأنظمة التابعة، ويُمرَّر عبر الإعلام والأعمال، ويُفرض على الشعوب من دون أن يُسألوا عنه.

لهذا، فإن السؤال الحقيقي ليس: "لماذا تطبّع بعض الدول؟"
بل: "لماذا يُمنع الناس من رفض التطبيع؟"

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡