كمبوديا وتايلند تحارب على أراضٍ صغيرة، بينما لا تُخاض الحروب ضد الاحتلال الإسرائيلي؟

في مشهد يبدو متناقضًا للوهلة الأولى، تنخرط دول فقيرة في جنوب شرق آسيا ككمبوديا وتايلند في نزاعات دموية حول مساحات صغيرة من الأرض، فيما تتراجع معظم الدول العربية عن المواجهة العسكرية مع إسرائيل رغم احتلالها لمناطق شاسعة من الأراضي الفلسطينية والعربية. هذه المفارقة تثير تساؤلًا فلسفيًا وجيوسياسيًا: لماذا يُسال الدم لأجل كيلومترات حدودية في آسيا، بينما يُستباح التاريخ والجغرافيا في الشرق الأوسط دون مقاومة؟

الجواب لا يكمن فقط في المعادلات العسكرية، بل في أعماق الوعي السياسي، وخرائط الهيمنة، ومفاهيم السيادة والكرامة.

الهوية والسيادة: حين تصبح الأرض رمزًا للكرامة

النزاعات بين كمبوديا وتايلند ليست وليدة اللحظة، بل ترتبط بتركة استعمارية أفرزت حدودًا ملغومة، أبرزها حول معبد Preah Vihear، وهو موقع أثري يحمل في وجدان الشعبين رمزًا للهوية الحضارية.
كل طرف يرى في هذا المعبد، ومحيطه الضيق، قضية سيادة وطنية لا تُساوَم. لذلك، فإن الحرب عليه ليست حربًا جغرافية بقدر ما هي معركة وجود رمزي وسياسي.

في المقابل، قضايا الاحتلال في العالم العربي، رغم اتساع رقعتها، فقدت في كثير من خطاب الأنظمة موقعها الرمزي المركزي. لم تعد فلسطين "قضية العرب الأولى"، بل باتت ملفًا إنسانيًا، أو عبئًا سياسيًا، تُدار حوله التسويات والتطبيعات.

موازين القوى: من التكافؤ إلى الردع النووي

في جنوب شرق آسيا، ورغم الفوارق، فإن القوى العسكرية بين تايلند وكمبوديا ليست متباعدة لدرجة الشلل. يدرك كل طرف أن بوسعه الدفاع، وأن الطرف الآخر ليس محصنًا دوليًا.
لكن في الشرق الأوسط، فإن المعادلة مختلفة جذريًا. إسرائيل مدعومة من الغرب دعمًا مفتوحًا، تمتلك ترسانة نووية، وتحظى بحصانة سياسية شبه مطلقة. كل دولة تفكر في المواجهة تُحاصر دوليًا، وتُهدد اقتصاديًا، ويُشهر في وجهها سلاح العقوبات والشيطنة الإعلامية.

من الصراع إلى الاحتواء: كيف خُنقت فكرة الحرب؟

الحرب ضد إسرائيل لم تتوقف لأنها غير مبررة، بل لأنها ممنوعة. لقد تم ضبط العالم العربي باتفاقيات سلام، وحلقات تنسيق أمني، وتحالفات خفية. لم تعد الأنظمة تقاتل دفاعًا عن الأرض، بل تسعى لضمان بقائها عبر التماهي مع شروط الهيمنة.

وفي الوقت ذاته، تروّج المنصات الإعلامية والخطابات السياسية لمعادلات جديدة، حيث تُوصَف الحروب ضد الاحتلال بأنها "عبث"، وتُحرّف مفاهيم المقاومة، وتُستبدل بالأحلاف الأمنية والتطبيع الاقتصادي.

التفسير الأعمق: من يمتلك قراره... يقاتل

ليست القضية في المساحة الجغرافية، بل في امتلاك القرار السياسي السيادي.
كمبوديا، رغم ضعفها، تُقاتل لأنها تملك قرارها الوطني. أما أكثرية الدول العربية، فهي مقيدة بإرادة خارجية، تخضع لنظام عالمي يعاقب على المقاومة، ويكافئ الخضوع.

وحين يكون النظام الرسمي العربي جزءًا من منظومة الهيمنة، فإن الحرب لم تعد خيارًا، بل خطرًا على النظام ذاته. فيُجرَّم من يفكر فيها، ويُلاحق من يدعو إليها، وتُطعن الحركات التي تخوضها، من خاصرتها العربية لا من عدوها المباشر.

خاتمة

المفارقة بين حربٍ على معبد حجري، وصمتٍ عن احتلال القدس وغزة والضفة والجولان، لا تُفهم إلا من خلال تفكيك مفهوم الكرامة السيادية.
في دول تمتلك قرارها، تكون الأرض رمزًا مقدسًا.
أما في دول الوصاية، فحتى القضايا المصيرية تُفرَّغ من معناها، وتُحوَّل إلى ملفات تفاوض لا تنتهي.ة.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡