
حين يُذكر "صندوق النقد الدولي"، يظنه البعض جهة إنقاذ اقتصادي، أو شريكًا تقنيًا لدعم الدول المتعثرة.
لكن خلف هذه الواجهة المالية، يقف أحد أخطر أدوات الهيمنة المعاصرة، وأكثرها تأثيرًا على استقلال الدول وسيادتها وقراراتها.
فما يُمنَح من "قروض" ليس مالًا مجانيًا، بل شروطًا سياسية مقنّعة تُعيد تشكيل بنية الدولة من الداخل، وتُخضعها لأجندة لا تُعلَن دائمًا.
من يُموّل.. يفرض
ينتمي صندوق النقد إلى ما يُعرف بـ"نظام بريتون وودز"، والذي تشكّل بعد الحرب العالمية الثانية لترسيخ قيادة الغرب للاقتصاد العالمي.
لكن جوهر آليته بسيط:
من يُقرضك.. يُخضعك.
فكل قرض يصاحبه:
- برنامج "إصلاح اقتصادي" إلزامي
- توصيات تُفرض كأوامر
- رقابة دورية على الميزانية العامة
- التزامات بالخصخصة وتحرير السوق
- التخلي عن الدعم الاجتماعي
والنتيجة؟
قرارات حكومية تُتخذ في واشنطن لا في العواصم المحلية.
الخصخصة كأداة للنهب لا للتنمية
من أبرز شروط صندوق النقد: بيع المؤسسات العامة، بحجّة الكفاءة.
لكن الواقع يكشف عن سيناريو متكرر:
- تُباع أصول الدولة لشركات أجنبية بثمن بخس
- تُسرّح آلاف العمال
- تُفقد الدولة سيطرتها على قطاعات استراتيجية كالكهرباء والمياه والاتصالات
- تُفتح الأبواب أمام النهب المنظَّم تحت اسم "الاستثمار"
وهكذا، تتحول الدولة من فاعل اقتصادي إلى خادم للمصالح الأجنبية.
تقشّف للفقراء.. لا للأغنياء
يرافق برامج الصندوق دائمًا ما يسمّى "التقشّف":
- رفع الدعم عن الغذاء والوقود
- تجميد الأجور
- تقليص الإنفاق على الصحة والتعليم
- فرض ضرائب غير مباشرة تطال الفقراء
لكن نادرًا ما يُطلب تقليص النفقات العسكرية، أو محاربة الفساد الفوقي، أو استرجاع الأموال المنهوبة.
فالفقراء دائمًا هم من يدفعون ثمن الانهيار، لا النخب الفاسدة.
خطاب "الإصلاح" المضلل
يُسوّق الصندوق نفسه كمُصلِح، ويُلبس تدخله لغة أكاديمية وتقنية:
"تحقيق التوازن"، "تحفيز النمو"، "تحسين بيئة الأعمال"...
لكن خلف هذا الخطاب، يُعاد هيكلة الدول لتكون تابعة اقتصاديًا، فاقدة للقرار الاجتماعي، بلا قدرة على بناء نموذج تنموي مستقل.
خريطة السيطرة الناعمة
لا يحتاج الاستعمار اليوم إلى احتلال مباشر.
يكفي أن:
- تُسيطر على قرارات البنك المركزي
- تُحدّد أولويات الموازنة العامة
- تُملي شروط القرض القادم
- تُبقي الدولة في حالة عجز دائم
وهكذا، يتحول القرض إلى سلسلة دائمة تُقيّد أي نهضة ممكنة.
السيادة ليست حسابًا بنكيًا
تُقاس السيادة الحقيقية بقدرة الدولة على تقرير مصيرها الاقتصادي دون إذن من الخارج.
وحين تصبح الموازنة مشروطة، والسياسات مصدّقة من جهة خارجية، فذاك ليس استقلالًا، بل استعمارًا مقنّعًا.
الحرية السياسية بلا حرية مالية.. وهمٌ يُسوّق للضعفاء.