اللاعبون الخفيون - السيطرة على الموارد: خصخصة المياه والطاقة: استعمار جديد بثوب استثمار

في ظاهرها، تبدو خصخصة الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء خطوة نحو "التنمية" و"تحسين الكفاءة"، لكنها في حقيقتها عملية تجريد للأمم من سيادتها، وتحويل الحق الإنساني في الحياة إلى سلعة تخضع لمنطق السوق والمضاربة والربح.

إنها استعمار حديث، تُمارسه الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية الدولية، تحت شعارات براقة، لكنها تُخفي في جوهرها إخضاع الشعوب، والهيمنة على شرايينها الحيوية.


أولًا: المياه... سلعة تحتكرها الشركات

من المورد الطبيعي إلى ملكية تجارية

المياه، المورد الذي يُفترض أنه مشاع إنساني، أصبحت خاضعة لاحتكار عدد من الشركات العالمية الكبرى مثل:

  • Suez وVeolia (فرنسا): تديران شبكات المياه في أكثر من 90 دولة حول العالم.
  • Nestlé: دخلت في صراعات عديدة بسبب استغلالها لمصادر المياه الجوفية في دول مثل كندا والبرازيل، وإعادة بيعها بأسعار مضاعفة.
  • Coca-Cola: تتهمها تقارير بتمويل حملات ضغط للحصول على امتيازات لاستخراج المياه في الهند والنيبال.

أمثلة صارخة

  • بوليفيا (2000): بعد خصخصة المياه في مدينة كوتشابامبا لصالح شركة أجنبية، تضاعفت الأسعار، ومُنع السكان من جمع مياه المطر دون ترخيص. أدى ذلك إلى انتفاضة شعبية أجبرت الحكومة على إلغاء الاتفاق.
  • غانا: أجبرت على خصخصة قطاع المياه ضمن شروط صندوق النقد الدولي، مما أدى إلى ارتفاع أسعار المياه بنسبة 95% خلال ثلاث سنوات فقط، دون تحسن في الخدمة.
  • جنوب إفريقيا: تم تقنين المياه عبر عدادات مسبقة الدفع للمنازل الفقيرة، مما أدى إلى انتشار الأمراض نتيجة استخدام مياه ملوثة بديلة.


ثانيًا: الطاقة... أداة لخلق تبعية اقتصادية

خصخصة الكهرباء: خدمة أم وسيلة للهيمنة؟

قطاع الكهرباء لم يكن بمنأى عن الزحف النيوليبرالي، فقد:

  • تم بيعه في عدة دول إفريقية وآسيوية إلى شركات أجنبية، أبرزها:
    • Enel (إيطاليا)،
    • EDF (فرنسا)،
    • AES Corporation (أمريكا).

  • أُزيل الدعم تدريجيًا، فارتفعت الأسعار، مع غياب العدالة في التوزيع.
  • الشركات الخاصة باتت تمتلك القدرة على التحكم في توقيت وأولوية وصول الكهرباء، حتى في حالات الطوارئ أو الأزمات.

أمثلة واقعية

  • لبنان: خضعت شبكات التوزيع لخصخصة جزئية، مما أدى إلى تعدد المشغلين، وتضخم الفواتير، بينما بقي الانقطاع اليومي سمة عامة.
  • الفلبين: بعد خصخصة الكهرباء، أصبحت الأسعار من الأعلى في آسيا، ووُثّقت حالات قطع الكهرباء عن آلاف العائلات غير القادرة على الدفع.
  • نيجيريا: خُصخص قطاع الكهرباء بشكل واسع، لكن سوء الإدارة والتكاليف الباهظة أبقت البلاد غارقة في الظلام لساعات يومية، رغم الثروات الطاقية الهائلة.

دور المؤسسات المالية الدولية: الخصخصة كشرط للقروض

صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لا يُملي فقط، بل يُهندس:

  • يشترط تحرير الأسواق وخصخصة الموارد الأساسية قبل منح القروض.
  • يُقنع الحكومات بأن الخصخصة ضرورة لتقليل عجز الميزانية، في حين يتم تحميل الفقراء التكلفة النهائية.

هذه المؤسسات لا تُقدم بدائل حقيقية، بل تُعيد إنتاج التبعية الاقتصادية، وتُحوّل القرار الاقتصادي الوطني إلى شأن تُقرّره الشركات والمستثمرون الأجانب.

التداعيات الاقتصادية والاجتماعية

  1. فقدان السيادة الوطنية:

    • تصبح الدولة عاجزة عن التحكم في أسعار خدماتها الأساسية.

    • تُفرض عليها سياسات خارجية تهدد الاستقرار الاجتماعي.

  2. انفجار الغضب الشعبي:

    • ترتفع الأسعار فجأة.

    • تتردى الخدمات.

    • تنعدم الثقة بالحكومات.

  3. تآكل التماسك الاجتماعي:

    • يُحرم الفقراء من الكهرباء والماء.

    • تنشأ طبقة محمية من الأغنياء والمستثمرين الأجانب.

  4. أزمات صحية وبيئية:

    • بسبب تقنين المياه، وانقطاع الكهرباء، واستخدام بدائل خطيرة.

    • كما أن شركات الطاقة والمياه تُهمل معايير البيئة غالبًا مقابل تعظيم الربح.

الخاتمة

خصخصة المياه والطاقة ليست خيارًا "تنظيميًا" بسيطًا، بل هي استراتيجية نفوذ تسعى إلى تحويل الحياة نفسها إلى مجال استثمار، وتحويل الدولة إلى "وكيل خدمات" لشركات عابرة للسيادة.

هذه العملية التي تُقدَّم بلبوس الإصلاح، ما هي إلا استعمار ناعم، لا يحتاج إلى جنود، بل إلى عقود وصناديق تمويل، تُخضِع الشعوب من خلال احتكار الضروريات لا من خلال السلاح.

سلسلة: اللاعبون الخفيون في السياسة العالمية

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.