
في هذا المقال، نكشف كيف تحوّل الإعلام العالمي إلى لاعب خفي في هندسة الإدراك وتوجيه الشعوب، وكيف يُستخدم كأداة ناعمة لتثبيت الروايات الرسمية، وخنق الأصوات الحرة، وتبرير الحروب، وشيطنة الخصوم.
أولًا: الملكية المتركّزة والإعلام المُحتكر
لا يمكن فهم دور الإعلام دون النظر إلى من يملكه ويموله:
- أقل من 10 شركات عملاقة تتحكم في غالبية المحتوى الإعلامي عالميًا، مثل: Comcast، Disney، News Corp، Warner Bros Discovery.
- تمتلك هذه الشركات محطات تلفزيونية، وصحفًا كبرى، ومنصات بث رقمي، واستوديوهات سينمائية، ما يمنحها القدرة على التحكم في السرد الإعلامي من المصدر حتى الاستهلاك.
- هذا التشابك بين المؤسسات الإعلامية والنخب الاقتصادية والسياسية يُنتج إعلامًا تابعًا ضمن شبكة النفوذ الرأسمالي، لا مراقبًا له.
ثانيًا: من الصحافة إلى صناعة الرواية
لم يعد الإعلام يسعى لنقل الحقيقة، بل إلى صناعة الحقيقة المقبولة:
- انتقائية التغطية: تُعتم على مجازر الحلفاء، وتُضخَّم أخطاء الخصوم بوصفها جرائم ضد الإنسانية.
- شيطنة المقاومة وتلميع الاحتلال: تُقدَّم الشعوب المقهورة كـ"إرهابيين"، بينما تُمنح الأنظمة القمعية شرعية كـ"مكافحة الإرهاب".
- تكرار السرديات الموجَّهة: استخدام مصطلحات مثل "ديمقراطي"، "داعشي"، "تقدمي"... لتوجيه اللاوعي نحو مواقف مبرمجة.
ثالثًا: الإعلام كأداة تمهيد للتدخلات والحروب
قبل أن تبدأ الصواريخ بالتحليق، يبدأ الإعلام بتهيئة الجمهور:
- التغطية العاطفية الانتقائية: صور معاناة مختارة لإثارة "الرأي العام" العالمي تمهيدًا للتدخل.
- اختلاق ذرائع متكررة: اتهام الخصم بأسلحة دمار شامل أو بانتهاك حقوق الإنسان.
- طمس ما بعد الغزو: إخفاء الفوضى الناتجة، وتقديمها كنتيجة "لطبيعة الشعب"، لا كنتيجة مباشرة للاحتلال.
رابعًا: الإعلام الرقمي... من وهم الحرية إلى رقابة ذكية
تحوّل الإعلام الرقمي من وعد بالتحرر إلى أداة ضبط ناعمة:
- خوارزميات موجهة: تروّج للمحتوى المنسجم مع الرواية الرسمية، وتُخفي المحتوى المعارض.
- حملات تبليغ منظمة: تُستخدم لإسكات المعارضين السياسيين والحقوقيين.
- تحالف السلطة والمنصات: تعاون بين Google وMeta والحكومات لرصد المحتوى وتوجيهه دون مساءلة.
خامسًا: التلاعب بالمصطلحات... حرب على الوعي
اللغة الإعلامية لم تعد وسيلة وصف، بل أداة توجيه:
- "احتلال" يُصبح "عملية وقائية".
- "قمع" يُقدَّم كـ"استعادة للاستقرار".
- "ثورة" تتحول إلى "فوضى".
- "قتل المدنيين" يُبرَّر كـ"أضرار جانبية".
هكذا يُعاد تشكيل الواقع لغويًا لتبرير السياسات القمعية وخلق وعي زائف.
سادسًا: دور النُخب الإعلامية في صناعة الوهم
الإعلام لا يُنتج الأخبار فقط، بل يُنتج نخبًا ناطقة باسم المنظومة:
- خبراء مأجورون يكرّرون الرواية الرسمية بأسلوب "محايد".
- برامج جدلية مصطنعة تخلق انطباعًا زائفًا بالنقاش والاختلاف.
- إعلاميون "مستقلون" يتحوّلون إلى أدوات دعاية باسم المهنية.
سابعًا: الإعلام وصناعة القادة... حين يُنتَج السياسي كمنتَج تسويقي
السياسي الحديث ليس بالضرورة نتاج مشروع حقيقي، بل صناعة إعلامية:
- تلميع إعلامي متعمّد: إبراز "الكاريزما" والمواقف الإنسانية والدرامية لصناعة صورة مثالية.
- سرد بطولات وهمية: سرد مواقف مفبركة لبناء بطل شعبي.
- إغراق بالرمزية: شعارات، موسيقى، ألوان... لصناعة ارتباط نفسي بالجمهور.
هذا النمط لا يقتصر على الغرب، بل أصبح استراتيجية انتخابية عالمية.
ثامنًا: الإعلام وتجريم الخصوم... محاكمات علنية بلا قضاة
عندما تقرر المنظومة إسقاط زعيم أو خصم، يبدأ الإعلام دوره:
- تشويه ممنهج: عبر شائعات وتحقيقات استقصائية مشبوهة.
- إخراج درامي مقصود: لقطات مجتزأة، عناوين مثيرة، تحليل نفسي لتدمير صورته.
- خبراء يصدرون أحكامًا تحليلية تُجهّز الجمهور نفسيًا لقبول السقوط القادم.
- إغراق بالرواية حتى تصبح واقعًا: فينهار الخصم شعبيًا قبل أي إجراء رسمي.
تاسعًا: الإعلام كأداة تسويق كبرى... حين تختفي الحدود بين الخبر والإعلان
الإعلام بات منصة تسويق شاملة:
الترويج للمنتجات والشركات:
- رعاية خفية للبرامج، وإقحام المنتجات في الحوار دون إظهار الإعلان.
- إدراج علامات تجارية في التقارير الإخبارية والقصص الإنسانية.
- رقابة تجارية تمنع انتقاد شركات كبرى حفاظًا على تمويل الإعلانات.
تشكيل الرأي العام:
- يُعاد تعريف "الحياة الطبيعية" وفق النمط الاستهلاكي الغربي.
- يُربط النجاح بالمظاهر الاستهلاكية.
- يُخلق شعور بالحاجة لمنتجات لم تكن ضرورية أصلًا.
عاشرا: التغطية الانتقائية: كيف تُصنع الأحداث وما يُخفى وراءها
ما لا يُعرض أخطر مما يُعرض:
- إخفاء الكوارث: المجازر تُغطى بأخبار المشاهير والترفيه.
- اختلاق ترندات: قضية تافهة قد تهيمن، بينما تُقصف شعوب بصمت.
- إلهاء جماهيري ممنهج: كلما ارتفع صوت الشعوب، أُغرقت المنصات في صراعات عاطفية أو تافهة.
خاتمة: الإعلام... ذراع الهيمنة الناعمة
الإعلام العالمي لم يعد ناقلًا للواقع، بل مهندسًا له. إنه مسرح ظلّ يُدار من خلف الستار. ومن لا يدرك هذه الحقيقة، يظلّ أسيرًا للرواية المفروضة، يستهلك الأكاذيب بوهم الحقيقة.
فهم دور الإعلام في منظومة السيطرة لا يقل أهمية عن فهم من يملك السلاح أو المال. فالكاميرا التي تصوّر المجزرة بطريقة معينة قد تكون أقوى من الطائرة التي نفذتها.
إنها دعوة لقراءة الإعلام بعيون ناقدة... لا كمتلقٍ سلبي، بل ككاشف لما يُراد إخفاؤه.