تشويه الدولة العثمانية: الهندسة الغربية للوعي بعد التقسيم

حين سقطت الدولة العثمانية، لم يكتفِ الغرب بإسقاط كيانٍ سياسيٍّ كان يقف سدًّا أمام أطماعه، بل شرع في تفكيك الذاكرة الجمعية نفسها. فبعد أن تم تقسيم الجغرافيا وفق خرائط سايكس–بيكو، بدأ تقسيم أخطر: تقسيم الوجدان والهوية. وُلدت من رحم الخراب دول قومية، وصيغت مناهج تعليم، وأُطلقت دعايات فكرية هدفها محو أي ارتباط نفسي أو تاريخي بفكرة "الدولة الجامعة". لقد تحوّل المشروع الغربي من احتلال الأرض إلى احتلال الوعي.
من الإمبراطورية إلى “الرجعية”: بداية سردية التشويه
مع سقوط الخلافة عام 1924، بدأ الغرب – بمساعدة نُخب محلية مُصطنعة – بتأطير الدولة العثمانية في الذاكرة العامة كـ"حقبة ظلام". صُوِّرت الإمبراطورية التي امتدت لستة قرون على أنها رمز للتخلف والاستبداد والجمود، بينما صُوِّر الاستعمار الأوروبي في المقابل كحاملٍ للحداثة والعقلانية والتحرر.
لم يكن ذلك توصيفًا بريئًا، بل عملية تاريخية ممنهجة لإعادة تعريف "الخير والشر" في الوعي الجمعي الشرقي: من وقف ضد الغرب صار ظلاميًا، ومن خضع له صار "مستنيرًا".
إعادة كتابة التاريخ: من المدرسة إلى السينما
بعد التقسيم، أُعيدت صياغة مناهج التاريخ في العالم العربي لتُبرز الصراعات الداخلية، وتُطمس إنجازات الوحدة الإسلامية. أُخفيت مشاريع الإصلاح العثماني، وصُغرت فكرة الخلافة إلى مجرد "سلطة دينية متخلفة".
في المقابل، رُوِّج لأبطال القوميات الحديثة الذين قاتلوا “الاحتلال العثماني”، رغم أن العثمانيين كانوا – في واقع الأمر – جزءًا من الجسد نفسه. هكذا تحوّل التاريخ إلى أداة لإنتاج ذاكرة مشوهة تخدم التقسيم لا الوعي.
حتى الإنتاج الفني والدرامي لعب دورًا محوريًا، إذ رُسمت صورة التركي الجشع أو الحاكم القاسي، وصُوِّرت الدولة العثمانية كإمبراطورية عبودية، بينما لم يُذكر شيء عن محاولاتها الإصلاحية أو مقاومة التغوّل الأوروبي على الشرق.
زرع القوميات: من العروبة إلى الطورانية
كان تفكيك الدولة العثمانية عملية معقدة من الهندسة السياسية. لم يكتفِ الغرب بإسقاطها عسكريًا، بل أعاد ترتيب شعوبها عبر خلق هويات جديدة متنافرة.
-
في المشرق العربي، زُرعت فكرة القومية العربية كبديل للخلافة، وأُحييت مفردات "العروبة ضد الأتراك" رغم أن الإسلام كان الرابط الأقوى بين العرب والترك.
-
وفي الأناضول، أُطلقت القومية الطورانية لتقضي على أي بقايا للتفكير العثماني الجامع، فصار التركي الجديد ينكر ماضيه الإسلامي، ويرى نفسه أقرب إلى أوروبا من العالم الإسلامي.
-
أما في البلقان، فقد صُنع وعي قومي حاد لكل عرق – صربي، يوناني، بلغاري – لتأمين انفصال دائم يمنع أي عودة لسلطة مركزية.
النتيجة: جزر قومية متنافرة يسهل على القوى الغربية إدارتها تحت مظلة الهيمنة السياسية والاقتصادية.
تفكيك المفهوم الجامع: من الأمة إلى “الشرق الأوسط”
الخطوة التالية كانت في اللغة السياسية نفسها. لم يعد هناك "العالم الإسلامي" أو "الولايات العثمانية"، بل مصطلح غربي جديد: الشرق الأوسط.
بهذه العبارة أُعيدت هندسة الخريطة الذهنية للمسلمين، ليصبحوا مجرد دول متجاورة بلا رابط روحي أو سياسي. كل دولة باتت "قضيتها الخاصة"، وكل شعب انشغل بحدوده الوطنية، فتمكّن الغرب من إدارة المنطقة كمنظومة مصالح لا كأمة واحدة.
صناعة الذنب والعار: حرب الوعي الحديثة
من أخطر أدوات التشويه كانت صناعة عقدة الذنب التاريخية، عبر تصوير العثمانيين كمستبدين أضاعوا الحضارة العربية وأخّروا نهضتها.
تمّ تحييد العاطفة الإسلامية وربطها بالماضوية، بينما رُبط التقدم بالتغريب والانفصال عن التاريخ العثماني.
وهكذا نجح الغرب في جعل الشعوب نفسها تنفر من فكرة الاتحاد، وتخاف من عودة أي مشروع جامع باسم “الخلافة” أو “الوحدة”، خوفًا من تكرار “الاستبداد العثماني” الذي صُنع في المخيلة لا في الواقع.
الغاية: منع نشوء قوة جامعة جديدة
الهدف النهائي من هذا كله لم يكن الانتقام من التاريخ، بل ضمان ألا تقوم في الشرق قوة مركزية مستقلة تنافس الغرب أو تعيد تشكيل التوازن العالمي.
فالتاريخ أثبت أن الأمة عندما كانت تحت مظلة كيان جامع، منعت التغلغل الغربي، وحافظت على استقلالها الاقتصادي والروحي.
ولذلك، لم يكن تقسيم الجغرافيا سوى الخطوة الأولى؛ أما تشويه الوعي فكان الضمانة الدائمة لبقاء السيطرة.
خاتمة
إن تشويه الدولة العثمانية لم يكن حدثًا ثقافيًا أو أكاديميًا، بل استراتيجية سياسية غربية بعيدة المدى، هدفت إلى قطع الجذور التي يمكن أن تُنبت فكرة الأمة من جديد.
واليوم، مع عودة الوعي التاريخي وتفكك الهيمنة الغربية، تعود الحاجة إلى قراءة تلك الحقبة بإنصاف، لا تمجيدًا ولا شيطنة، بل لفهم ما أرادوا أن ننساه: أن الأمة كانت واحدة، وأن سقوطها لم يكن قدرًا بل صناعةً دقيقة للهيمنة.