
الأنظمة التعليمية، لا سيما في دول الجنوب، تخضع لتأثيرات متعددة من أطراف خارجية تُعيد صياغة محتواها وهيكلها بما يخدم أجندات السيطرة الناعمة، وتكريس التبعية الفكرية والاقتصادية.
وفي مقدمة هذه الأدوات: المناهج الموجَّهة، برامج التمويل المشروط، والمنح الدراسية الدولية.
المناهج التعليمية: إعادة تشكيل العقول باسم "الإصلاح"
تُصمَّم المناهج الدراسية غالبًا تحت إشراف خبراء تربويين مدعومين من جهات مانحة، ما يجعلها انعكاسًا غير مباشر لرؤية تلك الجهات. ومن أبرز ملامح هذا التوجيه:
- إعادة تعريف المفاهيم السياسية الكبرى (مثل الديمقراطية، الحقوق، السلطة) وفق القوالب الغربية.
- تهميش الوعي التاريخي المحلي، والترويج لسرديات تُضفي شرعية على النظم الدولية القائمة.
- إقصاء المفاهيم التحررية والجذرية من برامج التعليم لصالح خطاب معتدل مُطوّع لا يهدد البُنى السياسية القائمة.
التمويل الخارجي: شروط غير مرئية
تُموَّل أنظمة التعليم في كثير من الدول من قبل منظمات دولية كالبنك الدولي، ومنظمات التنمية، ومؤسسات غربية خاصة. لكن هذا التمويل لا يأتي بلا مقابل:
- شروط ضمنية لتعديل السياسات التعليمية بما يتناسب مع السوق العالمي والاقتصاد النيوليبرالي.
- فرض لغات معينة ومناهج دولية تُضعف اللغة الأم والانتماء الثقافي.
- تحويل التعليم من أداة تحرر إلى قناة تدريبية تلبي احتياجات النظام العالمي.
المنح الدراسية: بوابة النخب المبرمجة
تُمنح الآلاف من المنح الدراسية سنويًا لطلاب من دول الجنوب بهدف الدراسة في جامعات عالمية مرموقة. ورغم أن هذه الفرص تبدو إنسانية، إلا أنها تحمل أبعادًا استراتيجية عميقة:
- انتقاء النخب المستقبلية وتكوينها ضمن بيئة فكرية متجانسة مع قيم القوى الكبرى.
- زرع الولاء الثقافي والسياسي عبر برامج تعليمية وتربوية تُغلف بمفاهيم التقدم والتنوير.
- استخدام الممنوحين لاحقًا كوسيط ثقافي وسياسي في بلدانهم عند توليهم مواقع مؤثرة.
في كثير من الحالات، يعود أصحاب هذه المنح وهم محمّلون برؤية ثقافية وسياسية "مدجنة"، لا تتصادم مع النظام الدولي، بل تُعيد إنتاجه بوجه محلي.
الخاتمة
لا يمكن فهم التعليم اليوم كفضاء محايد، بل هو ساحة صراع ناعم على العقول. فبين مناهج تُصاغ لخدمة نظم الهيمنة، وتمويل مشروط يُعيد تشكيل السياسات، ومنح دراسية تُبرمج نخب المستقبل، يتحول التعليم من أداة تحرر إلى وسيلة ضبط وإعادة إنتاج للسيطرة.
وعي هذه المنظومة ضرورة قصوى لبناء نظام تعليمي يعكس أولويات الشعوب، لا مصالح المموّلين.