اللاعدالة الدولية: حين تُقنَّن الجريمة ويُحاصَر العدل

في عالم يُفترض أن القانون الدولي هو حَكَمُه الأعلى، تتكرّر الوقائع التي تُثبت العكس تمامًا: أن العدل خاضع للسياسة، وأن المحاسبة انتقائية، وأن النظام العالمي ليس سوى محكمة مزيّفة لا يدخلها إلّا الضعفاء.

إنها اللاعدالة الدولية، التي لا تُمارَس فقط في صمت المؤسسات، بل في التواطؤ الصريح أحيانًا، وفي "التقنين" المخادع للجرائم.

فمنذ متى كانت العدالة انتقائية بحسب جنسية الجاني؟
حين يُقصف المدنيون في بلد "خارج المدار الغربي"، تغيب المحكمة الجنائية الدولية، ويصمت مجلس الأمن، ويكتفي الإعلام بعبارات "القلق"، وكأن الأطفال الذين يموتون هناك لا يملكون نفس القيمة الوجودية التي يملكها طفل في أوروبا.
لكن حين تقع الحادثة ذاتها في دولة متحالفة مع الغرب، يُستنفَر العالم، وتُفتح الملفات، وتُرسَل البعثات، ويُعلَن الغضب الرسمي بصيَغه القانونية والحقوقية.

أما مجلس الأمن، فقد تحوّل إلى مسرح لتعطيل القرارات العادلة.
فالفيتو، الذي وُضِع أساسًا لحفظ التوازن، أصبح أداة لنسف أي محاولة للمحاسبة أو ردع المعتدي. تُقدَّم المشاريع، وتُناقش الجرائم، ثم تسقط كلها بضغطة زر واحدة من دولة تملك امتياز القوة. أي نظام هذا الذي يعطي أحد أطراف الجريمة حقّ منع إدانة نفسه؟

ثم هناك المحكمة الجنائية الدولية، التي تدّعي أنها لا تميّز بين المذنبين، بينما تكاد تكون سجلاتها حكرًا على دول إفريقيا وخصوم الغرب.
أين هذه المحكمة من الذين أمروا بالحروب، ودمّروا بلدانًا بأكملها، وفرضوا حصارات أودت بحياة مئات الآلاف؟
لماذا تُصمّ آذانها حين تكون الضحية دولة عربية أو إفريقية أو آسيوية؟
أليس الصمت في هذه الحالة شكلًا من أشكال التواطؤ القانوني؟

وفي مشهد موازٍ، يُختزَل اللاجئون إلى "أرقام" و"مشكلات سكانية"، وتُطبّق عليهم قوانين تمنعهم من العمل أو التنقل، بدعوى الحماية.
لكن المأساة الحقيقية أنّ العالم لا يفتح أي تحقيق في أصل المأساة.
من هجّرهم؟ من قصف بيوتهم؟ من أدار الحروب التي جعلتهم بلا وطن؟
يتم تجاهل أصل الجريمة، ويُلاحق ضحاياها كما لو كانوا عبئًا يجب التخلص منه، لا بشرًا جُرّدوا من حياتهم بفعل دولي مباشر.

أما المساعدات الدولية، فقد تحوّلت إلى أدوات للابتزاز الناعم.
تُمنح بشرط، وتُسحب عند المخالفة، وتُستخدم لكبح أي رغبة سيادية أو استقلال اقتصادي.
إنها عقوبات مغلّفة بلغة العطاء، تُخضع الحكومات وتُدجّن الشعوب.

وحتى القانون الدولي الإنساني، الذي يُفترض أنه آخر خطوط الدفاع الأخلاقي، بات يُفسَّر بمرونة تسمح بتمرير أبشع الجرائم.
يُقال "تم قصف المدرسة لأنها كانت تُستخدم عسكريًا"،
أو "جرى استهداف المستشفى لأنه وُجدت فيه خلايا مسلحة"،
وكأن وجود شبهة يكفي لمسح البشر من الوجود.

إن اللاعدالة الدولية ليست خللًا عارضًا، بل بنية قائمة على الامتياز لا على المبدأ.
ولذلك، فالعدالة لا تُنجَز عبر المؤسسات وحدها، بل عبر وعي الشعوب، واستعادة الحق في تسمية الأشياء بأسمائها: أن نقول عن القاتل قاتلًا، حتى لو ارتدى بدلة دبلوماسية، وأن نصف المجازر كمجازر، حتى لو مرّرتها الأمم المتحدة كـ"أحداث مؤسفة".

إن من أكبر جرائم هذا العصر أن تتحوّل العدالة إلى وظيفة سياسية،
وأن يُمنح القوي الحصانة، ويُطالَب الضعيف بالتروي والامتثال،
وأن يصبح العدل امتيازًا لا حقًّا، وتُقنَّن الجريمة بدل محاسبتها.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.