تفكيك الوعي - المحور الثاني: استخدام الحروب لتفكيك القوى الصاعدة: الحرب على الإرهاب

الحرب على الإرهاب.. كيف مهّدت واشنطن لصعود خصميها الأكبرين: الصين وروسيا

 

حين أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية “الحرب على الإرهاب” في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، بدا المشهد وكأن العالم يدخل مرحلة جديدة من الهيمنة الأمريكية المطلقة. كان الخطاب مشحونًا بالرمزية: صراع بين “الحرية” و”الظلام”، بين “النظام العالمي الجديد” و”الفوضى”. لكن خلف هذا الغطاء الأخلاقي كانت تتشكل واحدة من أكثر المفارقات الاستراتيجية في التاريخ الحديث: فالحرب التي أرادت بها واشنطن تثبيت سيادتها على العالم، كانت هي نفسها التي فتحت الطريق أمام صعود خصميها الأكبرين ـ الصين وروسيا ـ ليشكّلا لاحقًا نواة النظام الدولي المتعدد الأقطاب.

استنزاف الذات الإمبراطورية

أنفقت الولايات المتحدة خلال عقدين من “الحرب على الإرهاب” أكثر من 8 تريليونات دولار في أفغانستان والعراق، وفق تقديرات جامعة براون. لم تنتصر حربيًا، ولم تربح سياسيًا، بل استنزفت قوتها المادية والمعنوية.
الجيش الأمريكي غرق في صراعات لا نهائية ضد عدو غير محدد، فيما تراجعت الاستثمارات في البنية الوطنية، وازدادت ديون الدولة، وتآكلت صورة أمريكا كقوة لا تُقهر.
لقد تحولت “الحرب على الإرهاب” من وسيلة للهيمنة إلى عملية انتحار بطيئة للهيمنة ذاتها. استُهلكت فيها موارد الاقتصاد، وأُهدر فيها الرصيد الأخلاقي، وبدأ الداخل الأمريكي يعيش انقسامًا سياسيًا غير مسبوق منذ حرب فيتنام.

الصين.. قوة الاقتصاد تحت غطاء الحرب

بينما كانت واشنطن تطارد أشباح الإرهاب في كهوف تورا بورا وصحارى العراق، كانت بكين تبني مصانعها، ومرافئها، وشبكات نفوذها عبر العالم.
الصين استغلت انشغال أمريكا لتطوير اقتصادها دون استفزاز مباشر. تضاعف الناتج المحلي الصيني بأكثر من ثماني مرات منذ 2001، وبدأت مبادرة "الحزام والطريق" تكرّس النفوذ الصيني في آسيا وإفريقيا وأوروبا الشرقية.
في الوقت ذاته، كانت الولايات المتحدة تُغلق عيونها عن التحول التكنولوجي والتجاري الذي بدأ يهدد سيطرتها على سلاسل الإمداد والتجارة العالمية.
لقد كانت “الحرب على الإرهاب” بالنسبة لبكين هدية تاريخية: غطاء مثالي لصعودها السلمي المزعوم، دون أن تشعر واشنطن بالخطر إلا بعد فوات الأوان.

روسيا.. من الهامش إلى محور التحدي

روسيا أيضًا قرأت المشهد الأمريكي بطريقة مختلفة. بعد عقدٍ من الانهيار والفوضى عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، جاءت حرب الإرهاب لتمنح الكرملين مساحة لإعادة بناء قوته من دون صدام مباشر مع الغرب.
في البداية، قدّم بوتين نفسه شريكًا مؤقتًا في مكافحة “التطرف الإسلامي”، ليحصل مقابل ذلك على غضّ طرفٍ أمريكي عن سياساته الداخلية وعن حربه في الشيشان.
لكن مع مرور السنوات، استعاد الجيش الروسي قدرته، وبدأت موسكو تتحرك بثقة في محيطها الجغرافي: جورجيا 2008، القرم 2014، وسوريا 2015.
كل خطوة من هذه كانت لتُعدّ تحديًا صريحًا للنظام الأمريكي لو لم يكن منشغلًا بمستنقعاته في الشرق الأوسط.
لقد سمحت “الحرب على الإرهاب” لروسيا بالعودة إلى المسرح الدولي من الباب الخلفي، لتصبح في العقد اللاحق لاعبًا رئيسيًا في كل صراعٍ استراتيجي يمسّ المصالح الأمريكية.

الحرب التي أضعفت سرديتها

“الحرب على الإرهاب” لم تضعف فقط الاقتصاد الأمريكي، بل أضعفت سرديته الأخلاقية أيضًا.
فبينما كانت واشنطن ترفع شعار الدفاع عن الديمقراطية، كانت تمارس سياسات الاعتقال خارج القانون، والتعذيب، وتغيير الأنظمة بالقوة، مما جعل خطابها يفقد مصداقيته تدريجيًا.
وفي الوقت ذاته، تبنّت الصين وروسيا خطابًا بديلاً يقوم على مفاهيم “السيادة” و”عدم التدخل” و”الاستقرار مقابل الفوضى”. هذا الخطاب، وإن كان براغماتيًا، وجد صدى واسعًا في دول الجنوب العالمي التي أنهكتها مغامرات الغرب العسكرية.
هكذا انتقل مركز الجاذبية من خطاب “الحرب على الإرهاب” إلى خطاب “مقاومة الهيمنة”، وهو التحول الذي مهّد نفسيًا وثقافيًا لتقبّل فكرة العالم المتعدد الأقطاب.

التحول البنيوي في النظام الدولي

اليوم، وبعد أكثر من عقدين على إطلاق تلك الحرب، تتضح نتائجها بعين التاريخ لا الإعلام.
الولايات المتحدة خرجت من أفغانستان في مشهدٍ يُقارن بسقوط سايغون، بينما وقّعت الصين وروسيا شراكات استراتيجية غير مسبوقة.
أصبحت بكين المركز الصناعي والمالي للعالم، وموسكو مركز القوة العسكرية التي تتحدّى الغرب في الميدان، في حين تحاول واشنطن أن تعيد ترميم “قيادة العالم الحر” وسط انقسام داخلي وديونٍ متفاقمة.
إن ما بدأ كـ"حرب ضد الإرهاب" انتهى كـ"حرب ضد الانحدار"، لكنها حرب لم تعد أمريكا قادرة على الانتصار فيها بالوسائل القديمة.

خلاصة تحليلية

الحرب على الإرهاب لم تكن خطأً تكتيكيًا، بل خطأً حضاريًا في فهم الزمن.
ففي حين تصوّرت واشنطن أنها تُؤمّن هيمنتها للأبد، كانت تُهدر الزمن التاريخي الذي كانت تحتاجه لمواجهة القوى الصاعدة.
لقد كانت النتيجة المعكوسة: بينما انشغلت الإمبراطورية بمطاردة الظلال، خرج خصماها من عتمة ما بعد الحرب الباردة ليقفا اليوم في قلب المشهد العالمي.
وهكذا تحولت “الحرب على الإرهاب” من مشروع للسيطرة إلى جسرٍ غير مقصود لصعود الصين وروسيا، ومن شعارٍ لتوحيد العالم حول أمريكا إلى عنوانٍ لانقسام العالم عليها.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.