
المبالغة كهوية فنية
المشاهد “الهبلة” التي يسخر منها المتفرجون في العالم ليست سذاجة هندية، بل اختيارٌ فنيّ واعٍ. فالهنديّ العادي يعيش واقعية تفوق الخيال: فقر، ازدحام، طبقات، فساد، وصراع بقاء يومي. لذلك لا يحتاج إلى واقعيةٍ أخرى في السينما. هو لا يذهب إلى السينما ليواجه ذاته، بل ليهرب منها. المبالغة هي وسيلته لتطهير النفس، والبطولة الخارقة هي التعويض الرمزي عن العجز الواقعي. وهنا تتحوّل اللاواقعية إلى وسيلة نفسية جماعية لإعادة التوازن الداخلي بين الإنسان وواقع لا يرحم.
منطق الجمهور لا منطق النقد
النقاد الذين يقيسون السينما الهندية بمقاييس هوليوودية يفشلون في فهم روحها. لأنهم يفترضون أن وظيفة السينما هي الإقناع، بينما في الثقافة الهندية، وظيفتها الإرضاء. الجمهور يريد أن يُدهش، أن يضحك، أن يصرخ، أن يبكي مع نغمة موسيقية مبالغ فيها. لذلك تظل السينما الهندية من أنجح التجارب في العالم من حيث عدد المشاهدين وتأثيرها العاطفي، حتى وإن بدت “غير منطقية”. إنها ببساطة سينما العاطفة لا العقل.
السينما كطقس اجتماعي

في الهند، لا تُشاهد الأفلام كأعمالٍ فنية فردية، بل كطقوس جماعية. الصالة تتحوّل إلى مسرحٍ شعبي، يصفق فيه الناس ويهتفون للأبطال كما لو كانوا في مباراة مصيرية. والسينما في هذه الحالة ليست مجرد ترفيه، بل طقسٌ اجتماعي يُعيد إنتاج الهوية الشعبية ويمنحها طاقة جماعية للتنفّس وسط واقع خانق. هي وظيفة ثقافية تشبه الأسطورة القديمة: لا أحد يصدّقها، لكن الجميع يحتاجها.
حين تصبح اللاواقعية واقعيةً رمزية
المفارقة أن اللاواقعية في السينما الهندية أكثر واقعية من الواقعية نفسها. لأنها تعبّر عن الوجدان الجمعي بصدقٍ، لا عن الصورة البصرية فحسب. البطل الذي يقفز من الجسر وينجو ليس “خارقًا” كما يبدو، بل هو رمزٌ لإنسانٍ عادي يرفض السقوط رغم كل شيء. أما المشاهد المبالغ فيها فهي شكلٌ من أشكال المقاومة الوجدانية ضد واقعٍ يستهلك الإنسان بلا رحمة.
الخلاصة:
السينما الهندية ليست سينما “هبلة” كما يصفها البعض، بل سينما “حكيمة بعبثها”. لقد فهمت أن الترفيه ليس محاكاة للحياة، بل هروبٌ مؤقت منها، وأن الجمهور لا يبحث عن الصدق البصري بقدر ما يبحث عن العدل الشعوري. ومن هنا، فإن المبالغة ليست عيبًا في الفن، بل لغةٌ رمزية لقول ما لا يُقال في الواقع.