اغتراب الرفاهية: لماذا يشعر الإنسان بالخوف من القرب؟

في زمن الاتصال الدائم والوسائط التي تَعِدنا بالتقارب، لم يكن الإنسان أكثر عزلة مما هو عليه اليوم.

ورغم فائض الخيارات والانفتاح الظاهري، تكاد العلاقات الإنسانية العميقة تُصبح عملة نادرة... بل ومُربكة.

لماذا يخشى الناس القرب؟
لماذا أصبحت العلاقات مرهقة حتى قبل أن تبدأ؟
ولماذا يفضّل كثير من الناس العزلة، رغم حاجتهم الملحّة للدفء؟

في هذه الحلقة، نحاول تفكيك مفارقة العصر العاطفية: الرغبة في أن نُحَب، والخوف من أن يُكشَف ضعفنا في المقابل.

💬 مسافة أمان... أم جدار عازل؟

نعيش في ثقافة تشجّعنا على الحفاظ على المسافة.
لا تقترب أكثر من اللازم. لا تظهر ضعفك. لا تتورط.
فكل انفتاح قد يُستغل، وكل قرب قد يتحول إلى عبء.

تتسرّب هذه العقلية إلى الصداقات، والعلاقات العاطفية، وحتى الأسرية.
يصبح التواصل مشروطًا، والحنان مؤجّلًا، والمشاعر متّهمة دائمًا بالمبالغة.
تتحوّل المسافة إلى فضيلة، والقرب إلى خطر.

💬 الفردانية الحديثة: هل نضجنا أم تبلّدنا؟

في الخطاب المعاصر، يُروّج الإنسان المستقل كغاية:
"لا تعتمد على أحد، كن مكتفيًا بنفسك، السعادة من الداخل لا من الآخر".
لكن... هل هذه حكمة، أم تعبير عن خيبة؟
هل الإنسان كائن مصمَّم فعلًا للاكتفاء الذاتي؟
أم أننا نحاول إقناع أنفسنا بذلك لأن الآخر أصبح مخيفًا، مُنهِكًا، مُخيّبًا؟

كثيرون يعيشون حياة تبدو ناضجة... لكنها فارغة من المعنى العاطفي.
ينجحون مهنيًا، لكنهم يُطفئون هواتفهم ليلًا، فقط كي لا يشعروا بالخواء أكثر.

💬 الحب كتهديد: ماذا لو لم يُبادَل؟

أحيانًا، لا نخشى الحب نفسه... بل أن نُحِب دون أن نُحَب.
أن نعطي كل شيء، ولا نُعطى شيئًا.
أن نكون صادقين في عالم يُكافئ الأقنعة.

لذلك، نتحايل على مشاعرنا.
نظهر البرود، نُقلّل التوقعات، نتظاهر بالاكتفاء.
لكننا في الحقيقة نُخفي خوفًا عظيمًا: أن نُكشَف، فلا نجد من يحتوي هشاشتنا.

💬 الحميمية: مرآة لا ترحم

العلاقات الحقيقية ليست مريحة دائمًا، لأنها تُجبرك أن تكون كما أنت.
تُريك كيف تتعامل مع الغيرة، الاحتياج، الغضب، الخذلان.
ولهذا، نخشى العلاقات لا لأنها تؤذينا، بل لأنها تكشفنا.
والانكشاف مؤلم لمن تربّى على دفن عواطفه.

في زمن الصورة، أصبح "أن تُرى على حقيقتك" مخاطرة وجودية.
لذلك نختار العلاقات السطحية، النصف صادقة، النصف دافئة، النصف حيّة.

خاتمة:

نحن لا نرفض العلاقات لأننا لا نحتاجها، بل لأننا لا نحتمل فشلها.
نشتاق إلى القرب... لكننا لا نحتمل خيباته.
نخاف من التورط، لأننا نحمل في ذاكرتنا أرشيفًا من العلاقات التي كانت أجمل في بدايتها، وأقسى في نهايتها.

في مجتمعات اعتادت أن تُمجّد "التحكم"، أصبح الاستسلام للحميمية فعلًا ثوريًا.
لأنك حين تقول "أنا بحاجة إلى دفء إنساني"، فأنت تُعلن شيئًا نادرًا في هذا العصر:
أنك لا تخاف أن تُحب... حتى لو كلفك ذلك أن تُكسر.

سلسلة: اغتراب الرفاهية.. رحلة في العمق

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.

✉️ 📊 📄 📁 💡