اغتراب الرفاهية: الانهيار الداخلي في ظل الرفاه

في المجتمعات التي يعتبر فيها الفقر هو الخطر الأعظم، يبدو الثراء وكأنه المآل الطبيعي للطمأنينة. لكن ثمة ما هو أكثر تهديدًا من العوز: الانهيار في قلب الراحة.

حين تملك كل شيء... ثم لا تشعر بشيء.

هنا يبدأ نوع آخر من الألم: ألم لا يراه الآخرون، ولا يصدّقه الفقراء، ولا يجرؤ صاحبه على الاعتراف به، لأنه غير مبرر.
كيف تشتكي من تعبك النفسي، وأنت تعيش ما يتمناه الجميع؟

💬 العيش بلا رغبة: حين تفقد الحياة طعمها

الحرمان يولّد الحافز، والاحتياج يولّد الحركة. أما الرفاه المستقر فقد يقتل الدافع ويُميت التطلّع.
حين لا تكون مضطرًا لشيء، لا تعود متحمسًا لأي شيء.
يبدأ الإنسان بالشعور أن كل الأيام متشابهة، وكل التجارب مُعادة، وكل النجاحات بلا طعم.

وهكذا يتحول "الاستقرار" إلى حالة خدر داخلي، يتآكل فيها الحافز، وتُصبح الحياة مجرد قائمة واجبات مريحة، لا مغزى لها.

💬 القلق الوجودي: لماذا أشعر بالضيق وأنا أملك كل شيء؟

إنه سؤال متكرر بصوت خافت لدى كثير من الميسورين:
لماذا هذا الفراغ؟ لماذا هذا الضيق؟ لماذا لا يكفيني شيء؟
لا جواب واضح، لأن الأزمة غير مرئية، لكنها حقيقية.
إنه ما يُسميه البعض "قلق المعنى": حين لا يكون لديك ما تُقاتل من أجله، ولا ما تنتظره حقًا.

هذا النوع من القلق لا يُحلّ بالترفيه، بل يزيده.
ولا يُداوى بالإنجاز، بل يرهقه.
لأن أصل المشكلة ليس نقصًا في التجارب، بل نقصًا في الارتباط العميق بشيء يستحق العيش لأجله.

💬 الصورة الخارجية... السجن المخملي

كلما زادت صورة الإنسان نجاحًا وبهاءً، زادت صعوبة تراجعه، أو اعترافه بالتعب.
يُصبح محاصرًا بما يتوقّعه منه الناس: أن يكون دائم القوة، دائم الابتسامة، دائم العطاء.

لكن الصورة تُصبح قيدًا حين لا تُشبه الداخل.
وهكذا يُصاب الإنسان بانفصال نفسي بين "ما هو عليه" و"ما يظهر عليه"،
ويعيش ازدواجًا مرهقًا بين تمثيل الحياة أمام الآخرين، والشكوى منها داخليًا.

💬 الحاجة إلى شيء لا يُمكن تسميته

في قلب هذا الرفاه، تنشأ حاجة غامضة: ليست حبًا، ولا مالًا، ولا اعترافًا... بل معنى.
شيء يجعل الحياة مترابطة، لا مجرد أحداث ناجحة متناثرة.

وهذا المعنى لا يولد من الإنجاز وحده، بل من الصدق مع الذات، من التجرد، من الشعور أنك "في مكانك"، حتى لو لم تكن في القمة.
أنك تعيش حياة تشبهك، لا حياة تُرضي الآخرين.

خاتمة:

أكثر الذين انهاروا نفسيًا في عالم الثراء، لم ينهاروا بسبب صدمة... بل بسبب غياب المغزى.
حين لا يعود هناك ما يُنتظَر، ولا من يُشاركك ما تعيش، ولا حتى شعور داخلي بأنك تسير نحو شيء يستحق.

لذا، المشكلة ليست في كثرة المال... بل في ضآلة المعنى.
والحياة، مهما اتسعت، تضيق إذا غاب منها ما يربطها بهدف، أو حب، أو صدق، أو حُلم.

سلسلة: اغتراب الرفاهية.. رحلة في العمق

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.