
إرث الهزيمة: لحظة تشكّل النظام الغربي
بعد استسلام ألمانيا في 1945، لم تنتهِ الحرب فقط على الأرض، بل بدأت حقبة هندسة سياسية طويلة قادها الحلفاء المنتصرون، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. جرى تقسيم ألمانيا إلى أربع مناطق نفوذ، ثم توجّ هذا التقسيم بتأسيس ألمانيا الغربية (الاتحادية) كدولة تابعة للمعسكر الغربي، وألمانيا الشرقية كأداة سوفييتية.
لكن ما يهمنا هنا هو أن ألمانيا الغربية بُنيت ضمن مشروع سياسي أميركي غربي يهدف إلى ما يلي:
- كبح التوجهات العسكرية الألمانية نهائيًا
- تحويل ألمانيا إلى واجهة اقتصادية في الحرب الباردة، دون تمكينها سياسيًا
- دمجها في المنظومات الغربية (الناتو، الاتحاد الأوروبي) لضمان تبعيتها البنيوية
وبذلك، منذ لحظة النشأة الحديثة، وُضعت الأسس لما يمكن تسميته بـ"ألمانيا المحاصَرة سياسيًا"، رغم انفتاحها اقتصاديًا.
"السيادة المقيدة": اتفاقيات ما بعد الحرب
خضعت ألمانيا لاتفاقيات طويلة الأمد مع الحلفاء، أبرزها:
- اتفاقية الاحتلال (1949) التي منحت الحلفاء حق التدخل في شؤون الدولة.
- اتفاقية القوات (Status of Forces Agreement) التي أبقت على وجود قواعد أميركية على أراضيها، حتى اليوم.
- التفاهم الضمني بعد إعادة التوحيد (1990) الذي حافظ على "الخطوط الحمراء" بشأن الطموحات الجيوسياسية الألمانية.
وقد أكد ذلك وزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر حين قال:
"نحن قوة اقتصادية كبرى، لكننا لا نملك القدرة الجيوسياسية المستقلة."
لماذا تبدو ألمانيا دولة تابعة حتى اليوم؟
1. الوجود العسكري الأميركي:
لا تزال هناك أكثر من 30 ألف جندي أميركي متمركزين في قواعد بألمانيا، مثل قاعدة Ramstein. هذه القواعد ليست رمزية، بل تُستخدم لتوجيه عمليات في أوروبا والشرق الأوسط، وتفرض عمليًا سقفًا على الخيارات العسكرية والسياسية الألمانية.
2. الارتهان للطاقة والسياسة الغربية:
رغم محاولاتها المتكررة للتقارب مع روسيا في ملفات الطاقة (مثل مشروع نورد ستريم)، خضعت ألمانيا للضغط الأميركي وألغت المشروع بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، مما كشف ضعف قرارها السيادي في ملف استراتيجي حيوي.
3. التبعية ضمن منظومة الاتحاد الأوروبي:
رغم أن ألمانيا تُعتبر زعيمة اقتصادية للاتحاد الأوروبي، إلا أنها مكبّلة بقواعد النظام الأوروبي نفسه، وهو نظام يوازن بين القوى ويحجم الطموح الألماني التاريخي في الزعامة السياسية. فرنسا، بريطانيا (قبل البريكست)، وحتى واشنطن، كانت حريصة على ألا تتجاوز ألمانيا سقف "الشريك الاقتصادي".
4. عقدة الذنب التاريخي واستغلالها السياسي:
ظلّت ألمانيا أسيرة خطاب الذنب عن جرائم الحرب والنازية، وهو خطاب تمّت تغذيته سياسيًا وأخلاقيًا لردع أي طموح قومي أو استقلالي. وهذا ما جعل السياسة الخارجية الألمانية دائمًا تتجنّب التناقض العلني مع السياسات الأميركية، وتخشى التصعيد في ملفات الشرق الأوسط، أو النزاع مع إسرائيل.
الدور الحقيقي في السياسة العالمية: فاعل اقتصادي، لا سياسي
ألمانيا اليوم تلعب دور "الخازن" لا "المقرِّر". هي دولة تموّل، تضخ مساعدات، تقود الإصلاحات داخل أوروبا، لكنها:
- لا تملك سياسة خارجية مستقلة في ملفات كالصين، روسيا، فلسطين.
- لا تملك قدرة على المبادرة العسكرية خارج مظلة الناتو.
- لا تمارس ضغوطًا سيادية على العالم مثلما تفعل فرنسا أو بريطانيا.
وحتى في أزمة أوكرانيا، جاء موقفها مترددًا، خاضعًا لميزان "ماذا تقول واشنطن؟" بدل "ماذا يناسب برلين؟".
مفارقة التناقض الألماني:
ألمانيا تشبه عملاقًا اقتصاديًا يسكن جسد تابع سياسي.
قوتها الحقيقية في الصناعة، والتمويل، والبنية المؤسسية، لكنها محرومة من القدرة على ترجمة ذلك إلى نفوذ سيادي حقيقي. تعيش بين تطلع إلى دور عالمي، وبين أسوار ما بعد الحرب التي ما زالت قائمة.
في الختام: هل يمكن أن تتحرر ألمانيا؟
ربما. لكن التحرر لا يأتي إلا بثمن كبير:
- الاستغناء عن الحماية الأميركية
- إعادة تعريف دورها في الناتو
- استعادة الجرأة السياسية في ملفات استراتيجية (الشرق الأوسط، الصين، روسيا)
وهذه خطوات صعبة في ظل بنية سياسية ألمانية "مُجنّبة للصدام"، وعقلية سياسية نخبوية اختارت منذ 75 عامًا دور "المدير الإداري" للعالم الغربي، لا "الزعيم" فيه.