
مؤسسة مالية دولية، يُقدَّم حضورها على أنه دعم إنقاذي للدول "المتعثرة"، لكنها في الواقع تمثل اليوم أحد أكثر أدوات الجبر السياسي تأثيرًا وعمقًا، حيث تتحوّل القروض إلى مفاتيح للتحكم في السياسات العامة، وتُدار ميزانيات الدول بأقلام موظفين لا يعيشون في تلك الدول أصلًا.
من الإنقاذ إلى الإملاء: كيف يعمل الصندوق؟
حين تطلب دولة قرضًا من الصندوق، لا تتلقى المال فحسب، بل حزمة شروط تُفرض على شكل "برنامج إصلاحي"، ومن أبرز سماته:
- خفض دعم السلع والخدمات (الوقود، الكهرباء، الغذاء).
- تحرير سعر الصرف وربط العملة بالعرض والطلب.
- تقليص القطاع العام وخصخصة المؤسسات الوطنية.
- تقليص ميزانيات التعليم والصحة لصالح سداد الديون.
تُقدَّم هذه الإجراءات كـ"خطوات ضرورية لتحقيق التوازن"، لكنها في الواقع تؤدي إلى:
تفكيك قدرة الدولة على ضبط اقتصادها، وإخضاع قراراتها المالية لموافقة الخارج.
من يحكم ميزانيتك.. يحكم سيادتك
المال ليس موردًا فقط، بل أداة قرار.
وحين تُدار ميزانية الدولة وفق دفتر شروط صندوق النقد، فإن القرارات الكبرى – من تحديد سعر الخبز إلى تمويل التعليم – لا تعود خاضعة لإرادة سياسية وطنية، بل تُحدَّد من قبل خبراء "غير منتخبين"، تحت دعوى "الإصلاح الاقتصادي".
هنا يكمن الجبر الحقيقي:
تُجبر الدولة على ترتيب أولوياتها وفقًا لمعايير السوق العالمي لا احتياجات مواطنيها.
هل هو صندوق أم مندوب سامٍ اقتصادي؟
لا تختلف مهام بعثة الصندوق في أي دولة عن مهام المندوب السامي في عهد الاستعمار الكلاسيكي.
فبعثة "التقييم الفني" تراجع كل شاردة وواردة في سياسة البلد المالية:
- كم تنفق على الصحة؟ كثير… خفّض.
- دعم الخبز؟ ارفعه تدريجيًا.
- الدينار ثابت؟ حرّره.
- دعم التعليم؟ أعِد توجيهه لـ"الكفاءة" لا الشمول.
وما أن ترفض الدولة شرطًا، حتى تُجمّد دفعة القرض، ويُهدَّد تصنيفها الدولي، وتتوقف الاستثمارات.
لماذا تستسلم الدول العربية؟ وهل من بديل؟
الاستسلام لا يأتي من الضعف فقط، بل من غياب البدائل الإستراتيجية.
فالاقتصادات العربية تعتمد على:
- الاستيراد أكثر من الإنتاج،
- القروض أكثر من الادخار،
- الاستهلاك أكثر من التصنيع،
- التحالفات أكثر من السيادة.
وحين لا تملك الدولة قرارها الاقتصادي، تصبح رهينة لمن يموّلها.
والأخطر أن الصندوق لا يعمل وحده، بل ضمن شبكة: البنك الدولي، ومؤسسات التصنيف، و"المانحين"، و"الشركاء الدوليين"… كلهم يتحركون بانسجام لصياغة شكل الدولة الحديثة وفق نموذج واحد: الدولة السوق التابعة.
الأمثلة واضحة… والنتائج واحدة
- في مصر، جاء قرض الصندوق ببرنامج تقشف قاسٍ، حرر الجنيه، ورفع الدعم، وأفقر ملايين المواطنين.
- في تونس، جُمّدت أجور الموظفين، وتمت خصخصة قطاعات كبرى، ما فاقم الأزمة بدل حلّها.
- في الأردن، أدى تنفيذ الشروط إلى احتجاجات شعبية متكررة منذ 1989.
- حتى لبنان، وهو على حافة الانهيار، يُطالب بـ"إصلاحات صندوقية" قبل أي إنقاذ.
والنتيجة واحدة:
دولة أضعف، مجتمع أفقر، ونخبة حاكمة أكثر تبعية.
خاتمة:
لم يعد الاستعمار بحاجة إلى احتلال جغرافي، يكفيه أن يسيطر على وزارة المالية.
وصندوق النقد، رغم غلافه التقني، هو أحد أذكى أدوات إعادة إنتاج التبعية في العالم العربي.
فما يُعرض كحل تقني، هو في جوهره قرار سياسي مموّل، يُفضي إلى تفكيك السيادة من الداخل.