نهاية السلسلة:

لقد قطعنا في هذه السلسلة رحلة تحليلية عبر ممرات السلطة، وأنفاق الجبر السياسي، وغرف صناعة القرار في العالم العربي، حيث تتداخل خيوط الخارج بالداخل، وتُبنى الأنظمة لا لخدمة الشعوب، بل لضمان استمرار السيطرة والتبعية.
لكنّ السؤال الكبير الذي يُطرح اليوم هو:
هل لا تزال آليات الجبر السياسي سرّية؟ أم أننا أصبحنا نعيش عصر الفضيحة العلنية؟
الجبر السياسي لم يعد سرًا
كان يُظن يومًا أن هناك مؤامرات تُدار في الخفاء، وأن التدخلات الأجنبية مجرد افتراضات. لكن اليوم، لم تعد أدوات الجبر مخفية خلف جدران السفارات أو غرف المخابرات؛ لقد أصبحت مكشوفة، موثقة، ومُعلنة:
- تصريحات علنية لسفراء يوجّهون الحكومات.
- اتفاقيات أمنية واقتصادية تُفرض بلا استفتاء.
- خصخصة ممنهجة للثروات تحت شعارات التنمية.
- تحالفات إقليمية تابعة تُسوَّق إعلاميًا كقرارات سيادية.
- حملات تطبيع لا تمثل الشعوب بل تُفرض من فوق.
لقد تحوّل "الجبر" من منظومة سرية إلى بنية فوقية معلنة، يُفترض أن يتعايش معها المواطن باسم "الواقعية السياسية".
وعي الشعوب... ومأزق الانفصام
تبيّن من خلال التفاعل الشعبي مع الأحداث المفصلية (النكبات، التطبيع، انهيارات اقتصادية، تسريبات استخباراتية...) أن جزءًا كبيرًا من الشعوب بات يعي ما يجري، ولم يعد يبتلع الرواية الرسمية كما في السابق.
لكن هذا الوعي لم يتحوّل بالضرورة إلى فعل سياسي منظم، بل بقي في كثير من الأحيان حبيس:
- الغضب المكتوم: يظهر في وسائل التواصل، في النكات الساخرة، في لامبالاة قاتلة.
- النفور من السلطة: اتساع الفجوة بين الحاكم والمحكوم، وانعدام الثقة.
- الانقسام الداخلي: بين من يرى الواقع مؤامرة، ومن يراه قدَرًا، ومن يُدافع عن الجبر باعتباره أهون الشرّين.
- الخوف من البديل: في ظل تجارب مأساوية للثورات أو الفوضى.
النتيجة: مجتمعات تعرف الحقيقة... لكنها تخاف ثمن مواجهتها.
كيف تنظر الشعوب لحكّامها؟
لم يعد المواطن العربي يرى الحاكم باعتباره قائدًا أو زعيمًا، بل أقرب إلى موظف إقليمي، وكيل ينفذ تعليمات الخارج، سواء أكان هذا الخارج أمريكيًا، فرنسيًا، إقليميًا، أو حتى شركات استثمارية.
بعض الحكام صاروا يظهرون وكأنهم في حرب نفسية ضد شعوبهم:
- يُحمّلونها مسؤولية الفشل.
- يُطالبونها بالصبر، وهم في بذخ لا ينقطع.
- يُشغلونها في خطاب المؤامرة بينما يمارسون الخضوع الواقعي.
هذا الانكشاف ولّد احتقارًا صامتًا في النفوس، قد لا يظهر في الشارع دائمًا، لكنه يتراكم.
مفترق طرق جديد
نحن اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما:
- الاعتياد على الذل، والتعامل مع التبعية كـ"واقع موضوعي" لا مهرب منه.
- التحول من وعي الغضب إلى وعي الفعل، من اللعن إلى البناء، من الاحتقار إلى التغيير.
لكن أي مسار يحتاج إلى أدوات:
- معرفة حقيقية.
- تنظيم وطني.
- مشروع بديل لا يكرر فوضى الماضي.
- قيادة لا تعيد إنتاج الجبر بأسماء جديدة.
الخاتمة:
انتهت هذه السلسلة، لكنها لم تكن لتقديم أجوبة جاهزة، بل لكشف بنية عميقة تحكم واقعًا بأكمله.
الجبر السياسي اليوم لم يعد طيفًا غامضًا، بل صورة واضحة يُطلب منا أن نراها ولا نحتج عليها، أن نُذعن لها دون سؤال.
لكن الشعوب لا تُهزم بالفرض، بل حين تنسى أنها شعوب.
وما دامت في أعماقها نار السؤال، فليس للجبر مستقبل... ولو طال.