
أولًا: اقتصاد لا يُحتسب.. لكنه يحكم
في عالم الإحصاءات الرسمية، تبدأ "النهارات" في الثامنة صباحًا وتنتهي مع غروب الشمس. أما في حياة المدن الصاخبة، فإن جزءًا كبيرًا من الناتج المحلي للمدينة يُخلق ليلًا، دون أن يُدوّن.
ملامح الاقتصاد الليلي:
- غير مسجل: آلاف العمال يعملون دون عقود، دون حماية، ودون إحصاء.
- غير خاضع للضرائب: من الأكشاك المتنقلة إلى الخدمات الليلية الخاصة، لا تمرّ معظمها عبر أجهزة الدولة.
- متكامل ومنتظم رغم فوضويته: شبكة من سائقي الدراجات، موزّعي طعام، حراس أمن، بائعي رصيف، مقاهي مفتوحة، وكلها تعمل في تناغم غير مرئي.
الأسباب الدافعة:
- تزايد الفقر الحضري وانهيار مفهوم "الوظيفة المستقرة".
- تحول المدن إلى مراكز استهلاك مستمر، حيث لا تنام المولات ولا تنطفئ الشاشات.
- حاجة الشرائح المهمشة إلى أي مصدر دخل، حتى وإن كان ليليًا، مؤقتًا، أو مُهينًا.
ثانيًا: مجتمع الليل.. تشكّلٌ جديد للهوية
تُعيد الحياة الليلية إنتاج المجتمع بطريقة مختلفة، تُزيّف فيها ملامح الطبقات، وتذوب فيها الفروق في الظاهر، لكنها تُعمَّق في الجوهر.
من يسكن الليل؟
- العمّال غير النظاميين: لا يملكون ترف الصباح.
- المُستَهلِكون الباحثون عن "حرية مؤقتة": يستهلكون الموسيقى، الطعام، وحتى الآخر.
- المشرّدون: الذين لا خيار لهم سوى المشي بلا هدف حتى تنتهي ساعات الليل.
- العاملون في “الهامش المشروع” وغير المشروع: من الباعة الجائلين إلى شبكات الدعارة والمخدرات.
النتائج الاجتماعية:
- تفكك الروابط الاجتماعية: لم يعد الليل زمنًا للراحة العائلية، بل للغياب عنها.
- تطبيع الشعور بالغربة: أصبح الطبيعي هو ألّا تعرف من يمر بجانبك في المدينة، حتى لو تكرّر وجهه كل ليلة.
- تَكَوُّن هوية فردية مقطوعة عن الجماعة: كل شخص يركض، يعمل، يبيع، أو يلهو.. دون انتماء يُذكَر.
ثالثًا: وهم الحرية في مدينة بلا نوم
المدن التي لا تنام، تُسوَّق على أنها رموز للحرية والانفتاح والحداثة. لكن في العمق، ما يبدو تحررًا هو في كثير من الأحيان عبودية مموّهة برخصة ليلية.
الحقيقة المُخفاة:
- الليل ليس مساحة حرة، بل سوق مفتوح. كل سلوك فيه خاضع للعرض والطلب.
- التمرّد الليلي مُرخّص وموجّه: ما يُسمح بفعله ليلًا هو ما يُدِرّ المال صباحًا (المهرجانات، النوادي، عروض التسلية).
- الانفلات الأخلاقي والمجتمعي ليس تمرّدًا بقدر ما هو استنزافٌ للطبقات المسحوقة.
رابعًا: المدينة بعد منتصف الليل.. من يحكمها؟
من يحكم المدينة في الليل؟ السلطة الأمنية؟ رأس المال؟ الحاجة؟ أم قانون الغاب الحضري؟
في الحقيقة، لا أحد يحكم المدينة ليلًا كما يُفترض. بل هي تُدار وفق ثلاثية مركبة:
- الطلب الاستهلاكي المتصاعد
- العرض البشري الفائض عن الحاجة
- الفراغ القانوني الممنهج
فلا تُنظّمها الدولة، ولا تحكمها القيم المجتمعية، بل تترك لتعيد تشكيل نفسها كل ليلة، لتُخفي ما لا يصلح للعرض في النهار.
خاتمة: مدن تسهر لتخفي تعبها
ما يُسمّى "الحياة الليلية" ليس ترفًا حضريًا، بل ضرورة وجودية لطبقات مغمورة تُقصى من النهار. إن ضجيج المدن في الليل ليس علامة حياة، بل أنين مكتوم لا يسمعه من يسكن الأبراج أو يغفو في ضواحي الرفاه.
المفارقة المُرّة أن المدينة لا تنام...
لأنها تخشى مواجهة نفسها إذا أغمضت عينيها.