
هل الجواسيس أقل ذكاء من المجرمين؟
حين تنجح الدولة في اصطياد الخطر الخفي... وتفشل في ملاحقة الإجرام العلني
من المفارقات الصارخة في دول العالم العربي — وبعض دول الجنوب عمومًا — أنك كثيرًا ما تقرأ عن "تفكيك شبكة تجسس خطيرة"، أو "القبض على عميل أجنبي تسلل إلى أجهزة حساسة"... بينما شبكات الغش، الدعارة، النهب، السرقات الكبرى، تواصل عملها دون توقف، وربما تحت حماية نافذين.
فتنشأ المفارقة الساخرة:
هل الجواسيس أقل ذكاءً من المجرمين؟
أم أن الدولة لا تُبصر إلا ما يهدد سلطانها، وتتعامى طوعًا عن كل ما يهدد شعبها؟
الجاسوس خطر على السلطة... والمجرم خطر على الشعب
هنا يكمن جوهر المفاضلة.
فالجاسوس لا يُنظر إليه كمجرم فحسب، بل كـتهديد مباشر لمركز القرار. إنه يخترق مؤسسات الحكم، ينقل الأسرار، يعري الأجهزة، ويفضح الثغرات.
ولهذا، تتحرك الدولة بكل أدواتها لإسقاطه:
- تتبعه
- ترصده
- تزرع حوله
- توظف الذكاء الاصطناعي إن لزم الأمر
- وتحوّل العملية إلى نصر أمني يُسوّق على أنه انتصار للسيادة
أما المجرم — خاصة إن كان سارقًا أو مشغّل شبكة دعارة أو مافيا تجارية — فهو لا يهدد بنية الدولة نفسها، بل ينهش من جسد المجتمع.
أي أنه يؤلم الشعب، لا الدولة... ولهذا، لا تُستفَزّ الأجهزة الأمنية إلا إذا هددت الجريمة "الشكل العام"، أو خرجت عن السيطرة.
الجاسوس يعمل في الظل... ومع ذلك يُكتشف
من المفارقات أن الجاسوس يعمل غالبًا في الخفاء:
- لا يعلن نفسه
- لا يبني شبكة علنية
- لا يترك بصماته بسهولة
- يستخدم حيلًا تكنولوجية وأدوات تشفير ومعلومات استخباراتية معقدة
ورغم ذلك، تنجح الدولة أحيانًا في كشفه، وتحليل تحركاته، وإسقاطه ضمن عملية أمنية دقيقة.
بينما في المقابل، ترى المجرمين:
- يروّجون مخدرات علنًا
- يُسوّقون للغش التجاري عبر مواقع التواصل
- يديرون شبكات دعارة محمية في أحياء معروفة
- يُهرّبون الأموال تحت أعين الجميع
لكن الأجهزة الأمنية تبدو عاجزة، أو بالأحرى مترددة في التحرك، كما لو أن الجريمة لا تستحق ذات الجهد الذي يُبذل لملاحقة الجاسوس.
لأن المجرم قابل للتوظيف... أما الجاسوس فخصم لا يمكن احتواؤه
المجرم — في منطق الدولة العميقة — ليس دائمًا خصمًا.
بل قد يكون:
- أداة لضرب الخصوم
- مصدر تمويل غير شرعي
- واجهة لمصالح نافذين
- أو حتى قناة لتفريغ الاحتقان الاجتماعي
أما الجاسوس، فهو عادة ما يعمل لصالح قوة خارجية مستقلة، لا يمكن تطويعها أو إشراكها في المعادلة.
هو ليس "مجرمًا محليًا يمكن تهجينه"، بل كائن غريب عن المنظومة، ولا بد من استئصاله.
لذلك، تبذل الدولة كل طاقتها لتفكيكه، لأنها لا تستطيع التعايش معه كما تفعل مع شبكات الإجرام.
العدالة المسرحية: حين تكون الكاميرا حاضرة في القبض على الجواسيس فقط
ملاحظة أخرى لافتة:
عند اعتقال جاسوس، تترافق العملية غالبًا مع:
- صور درامية
- بيان رسمي
- عرض سينمائي لرحلة التتبع
- محاكمة علنية أو شبه علنية
- تعبئة إعلامية تصوّر الدولة في هيئة "اليقظة الكاملة"
أما عندما يُضبط لصُّ مال عام، أو مافيا عقارية، أو تاجر سموم غذائية:
- تتلاشى الكاميرات
- يُخفى الاسم
- يُخلى السبيل بكفالة
- وقد يُعاد تعيينه في موقع آخر بعد حين
لأن القضية ليست في "العدالة"، بل في مسرح الأمن، ودراما السيادة.
بين أمن النظام وأمن الناس
ما يُضبط ويُتابَع ويُلاحَق، ليس دائمًا ما يهدد الكيان العام، بل ما يهدد الحاكم أو النظام أو الشبكة المسيطرة.
بينما ما يُهمَّش أو يُتجاهَل، هو ما يصيب العامة، لأن أمن الناس ليس أولوية في معادلة الحكم التسلطي.
ولهذا تنجح الدولة في اصطياد الجواسيس بدقة... وتفشل — أو بالأحرى تتظاهر بالفشل — أمام شبكات الإجرام العلني.
الخاتمة: ليست مسألة ذكاء... بل مسألة "من الذي يُخيف الدولة؟"
السؤال الساخر:
هل الجواسيس أقل ذكاء من المجرمين؟
ليس سؤالًا استخباراتيًا، بل سياسي بامتياز.
الفرق أن الجاسوس يُخيف السلطة، أما المجرم فغالبًا ما يُخيف الناس فقط — أو يُستثمر في تخويفهم.
وفي عالم تُبنى فيه معايير العدالة على مقاس النظام لا على مصلحة المجتمع،
يُلاحق مَن يُهدد الحاكم، ويُترك من ينهش الشعب.
فلا تُخدع حين ترى الكاميرات تحاصر جاسوسًا في غرفة فندقية... وتغيب عن حيتان المال والمخدرات والاتجار بالبشر.
إنها ليست مسألة أمن فقط، بل أولوية سياسية، وإخراج مسرحي، ونظام لا يرى الإنسان بل يرى ما يهدد عرشه.
