شعار التنمية.. من يخدم؟

كثيرًا ما تُرفع شعارات "تنمية الاقتصاد" و"تحفيز التحضّر" و"نقل المجتمعات من القرية إلى المدينة"، بوصفها سياسات تقدمية تهدف إلى تحسين حياة المواطنين. لكن الواقع يُظهر صورة معكوسة: فحين تُهجر القرى ويُزجّ بالفقراء في مدن مكتظة بلا بنية احتواء، لا تتحقق التنمية الموعودة، بل يتسع الفقر ويُجرد الإنسان من أدوات اكتفائه.
تهجير ناعم: كيف دُفعت القرى إلى الانقراض؟
لم يكن انتقال الريفيين إلى المدن دائمًا نتيجة خيار حر، بل غالبًا بفعل إغراءات دعائية وسياسات منهجية أضعفت حياة الريف.
أُهملت البنية التحتية في القرى، توقفت قنوات الري، ارتفعت كلفة الإنتاج الزراعي، وأُغرقت الأسواق بالسلع المستوردة الرخيصة.
وفي المقابل، صُورت المدينة على أنها الفردوس القادم: وظائف، رواتب، حياة عصرية، تعليم، وخدمات.
لكن الواقع؟ نزوح جماعي نحو الضواحي العشوائية، وانخراط في اقتصاد هش، بلا ضمانات، ولا هوية.
المدينة ليست للجميع: من يخسر ومن يربح؟
التحوّل نحو المدن لم يأتِ بتنمية عادلة.
من دخلوا إلى سوق العمل الحضري من أصول ريفية وجدوا أنفسهم في قاع السلم الاقتصادي: عمالة مؤقتة، بطالة مقنعة، أجور هزيلة، وسكن في أطراف المدن دون خدمات.
أما "اقتصاد المدينة" الذي يُروَّج له، فهو غالبًا اقتصاد خدمي واستهلاكي، لا إنتاجي، يستفيد منه أصحاب رأس المال، لا العمال أنفسهم.
وهكذا، خسر الريفي أرضه، وكرامته، واستقلاله، ولم يكسب سوى التبعية والهشاشة.
فقدان الاكتفاء الذاتي: نكبة غير معلنة
كان الفلاح في قريته يزرع قوت يومه، يبني بيته بيده، ويقتات من إنتاجه المحلي.
أما في المدينة، فهو يعتمد على السوق في كل شيء، ويعيش على هامش الاقتصاد، رهين الغلاء والتضخم والتقلبات.
لقد تحوّل من منتج مستقل إلى مستهلك عاجز، ومن سيد أرضه إلى موظف تحت الطلب.
وهنا تكمن المأساة الحقيقية: ليس في الفقر فحسب، بل في فقدان السيادة الحياتية والاقتصادية.
التنمية المنقوصة: حين تُقاس بالأرقام وتنسى الإنسان
في تقارير الحكومات، تُعدّ الزيادة في عدد سكان المدن دليل تطور.
لكن لا يُسأل أحد: هل حياة هؤلاء في المدن أفضل؟ هل يملكون سكنًا لائقًا؟ هل يحظون بوظائف كريمة؟
غالبًا ما تُختزل "التنمية" في مؤشرات ظاهرية: ارتفاع الناتج المحلي، توسع المدن، بناء طرق وجسور، بينما يُهمّش الإنسان نفسه من المعادلة.
ما البديل؟ العودة لا تعني التراجع
المطلوب ليس تمجيد الماضي أو رفض التحضّر، بل إعادة تعريفه.
ينبغي دعم الاقتصاد القروي، لا تفريغه.
تشجيع الزراعة المستدامة، وتوفير بنى تحتية، وإعادة الاعتبار للاكتفاء الذاتي والاقتصاد المحلي.
حين تكون التنمية متجذرة في الأرض، لا مفروضة من فوق، فهي لا تقتلع الإنسان من بيئته، بل ترفعه معها.
خاتمة: حين يتحوّل الفقير من مكتفٍ إلى تابع
إن أعظم خسارة لحقت بالإنسان البسيط لم تكن مادية فقط، بل كانت فقدانًا لنمط حياة متوازن، ومجتمع متماسك، واقتصاد مستقل.
والسؤال الحاسم الذي يجب أن يُطرح على كل مشاريع "التنمية" هو: من المستفيد؟
هل تغيّرت حياة الناس فعلًا، أم تغيّرت فقط الجغرافيا واللافتات؟
إن لم تعد التنمية تعني كرامة الإنسان واكتفاءه، فهي ليست سوى مشروع تهجير ناعم باسم الحداثة.