أسير في قبضة الحقيقة: لماذا تضجّ إسرائيل بقضية الأسرى؟

في مسرح الحروب، قد يسقط الجندي قتيلًا أو يقع أسيرًا. وفي العرف العسكري، كلاهما من طبيعة الحرب. إلا أن إسرائيل — التي تُعرّف نفسها كقوة عسكرية لا تُهزم — تنقلب رأسًا على عقب حين يُعلن عن وجود جندي أسير لدى المقاومة، فتفتح خزان دعايتها، وتستنفر مجتمعها، وتُطلق عمليات ميدانية طاحنة، كل ذلك من أجل استعادة «الجندي الأسير». فما حقيقة هذه الضجة؟ ولماذا تصرخ الدولة التي تضحي بجنودها في الميدان، عندما يُعلن عن أسر أحدهم؟
التضحية الميدانية بلا تردّد
ليست هناك دولة عسكرية حديثة تُقدّم الدلائل الصريحة على استباحة جنودها كما تفعل إسرائيل. ففي كل حرب تخوضها، توثّق تقارير متعددة أوامر داخلية تسمح بقتل الجندي المصاب أو المحاصر إن أصبح أسره وشيكًا، بل وتم قصف مواقع كان يُحتمل وجود جنود أحياء فيها، بهدف منع وقوعهم أسرى بيد فصائل المقاومة، كما حدث مرارًا في غزة.
ما يهم في الميدان هو "التحكّم بالرواية"، لا حماية الأرواح. الجندي حينها ليس سوى ترس في ماكينة السيطرة، وإن تطلبت المعركة تحطيم الترس، فليكن.
من الترس إلى الرمز: حين يتحول الجندي إلى عبء دعائي
لكن المفارقة تبدأ بعد لحظة الأسر. الجندي الذي لم تتردّد القيادة في التخلي عنه خلال المعركة، يتحوّل فجأة إلى «قضية وطنية مقدسة». وتبدأ ماكينة إسرائيل الإعلامية والسياسية في تسويق خطاب متضخم عن "الوفاء للجندي"، و"قدسية استعادته"، و"شرف الدفاع عن الجنود في قبضة العدو".
هنا لا يعود الجندي مهمًا كفرد، بل كرمز يهدد تماسك السردية القومية الإسرائيلية. فأسره:
- يكشف هشاشة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية.
- يهدد معنويات الجيش.
- يهزّ ثقة المجتمع في جيشه وفي حكومته.
- ويمنح خصوم إسرائيل أداة ضغط سياسية وإعلامية فاعلة.
حرب على «الرسالة» أكثر من الجسد
الأسير لدى العدو لا يملك قوة نارية، لكنه يملك سلاحًا أخطر: قدرته على البقاء كحقيقة محرجة تعيش في ذاكرة المجتمع الإسرائيلي. وكل يوم يبقى فيه الأسير حيًّا ومحتجزًا هو يوم إضافي من النكسة الرمزية للدولة. لذلك، فإن الحرب ليست على جسد الأسير، بل على الرسالة التي يُجسّدها:
أن إسرائيل ليست قادرة على حماية "أبنائها"، وأن صورتها ليست من فولاذ كما تدّعي.
ولهذا السبب، قد تُطلق إسرائيل مئات المعتقلين الفلسطينيين، بينهم من تعتبرهم "خطرًا أمنيًا"، مقابل جندي واحد. ليس لأن حياة الجندي لا تُقدّر بثمن، بل لأن الخسارة الرمزية أغلى من أي مكسب مادي.
الجنود وقود في زمن السلم… وصنم في زمن الحرب
تتناقض إسرائيل في تعاملها مع الجندي الأسير. فهي تضحي به تكتيكيًا إذا اقتضت الظروف، لكنها ترفعه إلى مرتبة "الصنم المقدس" عندما يتحول إلى نقطة ضعف علنية. هذا التناقض ليس عيبًا في الاستراتيجية العسكرية، بل جزء من بنية وعي استيطاني هشّ، لا يحتمل صورة الهزيمة، ولا يطيق أن يرى نفسه عاريًا أمام خصومه.
لذلك، فالضجة الكبرى التي تثيرها إسرائيل حول الأسرى، ليست دليلًا على إنسانية الدولة، بل على هشاشتها النفسية، وارتباك سرديتها حين تواجه الحقيقة.
خاتمة: منطق القوة حين ينقلب على ذاته
في النهاية، الجندي الأسير يُخرج إسرائيل من منطق القوة، إلى منطق الذعر. ولعلّ أكبر ما يكشف زيف "الدولة التي لا تُهزم"، ليس سقوط جندي في المعركة، بل بقاء جندي في الأسر… لأن هذا البقاء، مهما كان فرديًا، يهزّ المنظومة من داخلها، ويتركها تبحث عن ترميم صورتها لا عن حياة الجندي.
وهكذا، تتحول قضية الأسرى في إسرائيل من ملف عسكري إلى فضيحة رمزية… ومن معركة استعادة إلى حرب نفي للهزيمة.