
فعل مكشوف… لكنه محسوب
الأنظمة ليست غافلة عن وعي جزء من شعوبها. هي تعرف أن شريحة واسعة ستسخر من هذه الخطوة، لكنها تراهن على أن هذه الشريحة ليست صاحبة القرار الجماهيري الحاسم. ما يهمها هو الأغلبية الصامتة أو المستهلكة إعلاميًا، التي تكتفي بالصورة ولا تبحث في التفاصيل، فتُحقق العملية غرضها ولو بشكل مؤقت.
لماذا يفعلون ذلك وهم يعلمون أن التمثيلية ستنكشف؟
الجواب يكمن في فهمهم لـ"إدارة الانطباع" كأداة حكم. بالنسبة لهم، حتى التمثيلية المكشوفة يمكن أن تخدم إذا أدت غرضين أساسيين:
- توفير ذريعة إعلامية تقول: "لقد فعلنا ما نستطيع" في وجه الضغوط الداخلية والخارجية.
- خلق مشهد يستهلك الجدل الشعبي لعدة أيام، فيتحول النقاش من سؤال جذري ("لماذا لا نفتح المعابر؟") إلى سؤال جانبي ("هل المعونات الجوية كافية؟").
بين الاستعراض والحصار المستدام
بهذا الفعل، يجري تطبيع الحصار في الوعي العام: بدل الحديث عن رفعه، يصبح الحل هو "إدارة المعاناة" عبر إسقاطات رمزية. هذه هي صيغة "الإدارة الإنسانية للأزمة" التي استُخدمت سابقًا في البوسنة ودارفور، حيث جرى إدامة الحصار والقتل مع تقديم مسرحيات إنسانية متقطعة لإخماد الغضب الدولي.
المخاطرة: المفعول العكسي
لكن هذا التكتيك ليس بلا ثمن. كل تمثيلية فارغة تُراكم الإحباط عند الفئة الواعية، ومع الوقت قد تخرج هذه الفئة من موقع السخرية إلى موقع التحريض المنظم، خصوصًا إذا وجدت خطابًا سياسيًا يوظف الفعل الرمزي كدليل على التواطؤ أو العجز. في هذه اللحظة، يتحول أداة التهدئة إلى وقود احتجاجي.
كيف تحسب الأنظمة خطر التهييج الشعبي؟
الأنظمة تدير هذا الخطر بثلاث أدوات:
- تشتيت الانتباه: ضخ أخبار متزامنة أو أزمات أخرى تُغطي على الانتقادات.
- إطار وطني: تحويل الفعل إلى "بطولة وطنية" عبر الإعلام الرسمي، كما في: "طيارونا يخاطرون لإيصال المساعدات".
- ضبط المجال العام: منع أو تضييق النقاش المعارض في الإعلام المحلي، بحيث يبقى النقد في فضاءات التواصل الاجتماعي التي يسهل احتواؤها.
تمثيلية… لكنها جزء من إستراتيجية أكبر
ليست هذه مجرد حركة عشوائية أو رد فعل ارتجالي، بل جزء من إستراتيجية "التسكين السياسي" التي تستعملها الأنظمة العربية منذ عقود: تقديم حلول رمزية عالية الظهور، قليلة المردود، لإدارة الأزمات المزمنة بدل حلها. والوعي بهذه الإستراتيجية هو الخطوة الأولى لتحويل التمثيلية إلى أداة فضح.
من التلميع إلى الفضح: كيف يقلب الخطاب المعارض المعادلة؟
لتحويل هذه المشاهد من بروباغندا حكومية إلى دليل إدانة، يحتاج الخطاب المعارض إلى ثلاثة عناصر أساسية:
-
التوثيق الرقمي الدقيق
نشر بيانات وصور وفيديوهات توضّح حجم المساعدات الفعلي، مواقع سقوطها، وعدد المستفيدين مقارنةً بحجم الحاجة. هذا يجعل الصورة المهيبة تفقد قيمتها أمام الحقائق الملموسة. -
ربط الرمزية بالجذر السياسي
جعل الرسالة المركزية واضحة: "هذه المعونات هي اعتراف ضمني باستمرار الحصار، وليست حلاً له"، بحيث يفهم المتلقي أن القضية سياسية ممنهجة، لا أزمة إنسانية مؤقتة. -
نقل القضية إلى المنابر الدولية
استغلال المشهد لتذكير الإعلام والمنظمات الدولية بأن الحل الحقيقي ليس في الإسقاط الجوي، بل في فتح المعابر ورفع الحصار. هذا يحوّل الفعل من إنجاز إنساني مزعوم إلى شاهد على الجريمة المستمرة.
الخاتمة
إسقاط المعونات على غزة ليس خطأً في الحساب، بل حساب مدروس في إطار لعبة إدارة الغضب. الأنظمة تدرك أن المشهد مكشوف، لكنها تراهن على أن كشفه لن يغيّر ميزان القوى الشعبي إذا لم يجد من يوظفه بذكاء. وفي النهاية، الفرق بين أن يبقى هذا المشهد أداة في يد السلطة أو يتحول إلى عبء عليها، هو في يد من يملك السردية وينجح في ربط الرمزية بالمعنى السياسي الكامن خلفها.