
مبادئ الليبرالية المعلنة
جوهر الليبرالية يقوم على ثلاثة أعمدة كبرى:
- حرية الفرد: لا يجوز للدولة أو السلطة قمع ضمير الإنسان أو تقييد خياراته.
- المساواة أمام القانون: جميع البشر متساوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللون.
- سيادة الإرادة الشعبية: حق الشعوب في اختيار حكوماتها وتقرير مصيرها دون وصاية خارجية.
بهذا الخطاب، قدّمت الليبرالية نفسها كمنظومة قيم كونية، تصلح لكل مكان وزمان، وادّعت أنها النموذج الأخلاقي الأرقى الذي يمكن أن تتبناه البشرية.
"الحرية التي تُمنح للبعض وتُحجب عن البعض الآخر، ليست حرية، بل امتياز سياسي متنكر." – نعوم تشومسكي
غزة.. ساحة الامتحان
لكن حين انتقلت هذه المبادئ من الكتب إلى أرض الواقع في غزة، بدا المشهد مختلفًا تمامًا. الحصار الممتد منذ أكثر من 17 عامًا، والقتل الممنهج للمدنيين، وحرمان شعب كامل من الماء والكهرباء والدواء، لم يحرّك الضمير الليبرالي الغربي بنفس القدر الذي تحرك فيه لأحداث أخرى أقرب جغرافيًا أو أنسب سياسيًا.
الحق في الحياة، حرية التنقل، حرية التعبير، وحق تقرير المصير، كلها تحوّلت فجأة إلى مفاهيم قابلة للتعليق أو التأجيل إذا كان الضحية فلسطينياً.
الأرقام والوقائع
وفق بيانات منظمات حقوقية دولية، تعرّضت غزة منذ عام 2007 لأكثر من خمسة هجمات عسكرية واسعة النطاق، خلّفت عشرات آلاف القتلى والجرحى. وخلال الأشهر الأخيرة فقط، قُتل أكثر من 15 ألف مدني، بينهم ما يزيد على 6 آلاف طفل. كما دُمّر أو تضرّر نحو 70% من البنية التحتية السكنية، وأُغلق المعبر الوحيد لمعظم فترات الحصار، ما جعل سكان غزة البالغ عددهم نحو 2.3 مليون يعيشون في عزلة شبه كاملة عن العالم الخارجي.
ازدواجية المعايير
حين تتحدث الليبرالية عن حرية الصحافة، ترفع صور الصحفيين المعتقلين في دول خصومها السياسيين، لكنها تلتزم الصمت أمام اغتيال العشرات من الصحفيين في غزة تحت القصف المباشر.
وحين تعلن عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، تتبنى هذا المبدأ بحماسة إذا تعلق الأمر بجمهوريات انفصلت عن الاتحاد السوفيتي، لكنها تنكره حين يطرحه الفلسطينيون.
الوجه الحقيقي حين يسقط القناع
في غزة، يظهر أن الليبرالية ليست عقدًا أخلاقيًا عالميًا، بل أداة سياسية مرنة، تُستخدم حيث تتوافق مع المصالح الاستراتيجية وتُهمل حيث تتعارض معها. إنها منظومة تُقدَّم للعالم كخطاب تحرري، لكنها في التطبيق العملي تتحول إلى غطاء لغطرسة القوة وحماية الاحتلال.
غزة كاشفة الزيف
غزة اليوم ليست فقط مأساة إنسانية، بل اختبار فلسفي للقيم الليبرالية. في هذا الامتحان، سقطت الادعاءات الوردية، وظهرت الحقيقة الصلبة: أن القيم التي لا تُطبَّق إلا انتقائيًا، ليست قيمًا، بل أدوات سلطة.
خاتمة
من ثورة على الاستبداد إلى خادم له
ولدت الليبرالية يومًا كصرخة ضد استبداد الملوك والإقطاع، وكراية للحرية في وجه السجون والمشانق الأوروبية. لكنها اليوم، في امتحان غزة، تقف على الجانب الآخر من المتراس؛ تُبرر القتل، وتصمت على الحصار، وتغطي جرائم الاحتلال بلغة "الدفاع عن النفس". هكذا تحولت من مشروع تحرر إنساني إلى أداة لإدارة الاستعمار الحديث، ومن صوت الشعوب المقهورة إلى صوت المدافع التي تقهرها. في غزة، لم تمت الليبرالية فحسب، بل كُشف قبرها أمام العالم.