ماذا بعد سايكس–بيكو: هل دخلنا زمن الخرائط المرنة؟

منذ أكثر من قرن، رسمت اتفاقية سايكس–بيكو (1916) ملامح الجغرافيا السياسية في المشرق العربي. كانت الحدود التي وُضعت حينها بمثابة قيودٍ على الأمة، تفصل بين شعوبها وتعيد تشكيلها وفق مقاسات الاستعمار. اليوم، وبعد انهيارات متتالية عاشتها المنطقة، لم تعد تلك الحدود تحمل ذات المعنى. فهل دخلنا فعلًا مرحلة ما بعد سايكس–بيكو، حيث الخرائط مرنة، والسلطة تتجاوز الخطوط الوهمية؟


سايكس–بيكو: من خط على الخريطة إلى نظام كامل

لم تكن سايكس–بيكو مجرد تقسيم جغرافي، بل مشروع استراتيجي لإبقاء المنطقة مقسمة وهشّة.

  • ترسيم مصطنع: الحدود لم تُبنَ على أساس الهوية أو الاقتصاد أو الجغرافيا الطبيعية، بل على مصالح بريطانيا وفرنسا.
  • تثبيت بالنخب: أُنتجت أنظمة سياسية مرتبطة بالخارج، حارسة للحدود أكثر من كونها ممثلة لشعوبها.
  • شرعية دولية: لاحقًا جاءت الأمم المتحدة لتعيد إكساب هذه الحدود غطاءً رسميًا يصعب تجاوزه.

التصدع البطيء للحدود

خلال العقود الماضية، بدأت التشققات تظهر:

  • العراق وسوريا: الحرب الأهلية والتدخلات الخارجية جعلت الحدود شبه غائبة. التنقلات العسكرية والاقتصادية تجري بعيدًا عن الخرائط الرسمية.
  • فلسطين: الوجود الصهيوني فرض منطقًا يتجاوز سايكس–بيكو، عبر مشروع توسعي يسعى لإعادة رسم المجال الحيوي لإسرائيل على حساب الجوار.
  • السودان واليمن ولبنان: انهيارات الدولة تكشف أن الكيانات التي صُنعت قبل قرن كانت هشة بطبيعتها.
  • التحالفات الجديدة: اتفاقات التطبيع أو التحالفات الأمنية والاقتصادية لم تعد تعترف بحدود الجغرافيا بقدر ما تعكس اصطفافات تتجاوز الخرائط.

من الخرائط الصلبة إلى الخرائط المرنة

العالم اليوم لا يعيد رسم حدوده رسميًا، بل يُمارس إعادة تشكيل غير معلنة:

  • مناطق نفوذ عابرة للحدود: قواعد عسكرية، ممرات لوجستية، ومشاريع طاقة تعيد صياغة خريطة النفوذ دون المساس بالخطوط الدولية.
  • تفكيك داخلي: دول باقية على الورق لكن ممزقة داخليًا بين سلطات موازية.
  • اقتصاد ما بعد الدولة: الممرات الاقتصادية العالمية (مثل "الحزام والطريق") تُعيد هندسة المجال بعيدًا عن حدود سايكس–بيكو الجامدة.

البديل: من يرسم المستقبل؟

السؤال الأهم لم يعد: هل تنتهي سايكس–بيكو؟ بل: من سيضع البديل؟

  • إذا استمرت القوى الغربية والصهيونية في التحكم بالقرار، فإننا سنشهد نسخة جديدة من سايكس–بيكو، أكثر مرونة وذكاءً، تُدار عبر الاقتصاد والتكنولوجيا بدلًا من الاحتلال المباشر.
  • أما إذا استطاعت الشعوب والقوى الحية إعادة بناء مشروعها، فإننا قد نرى كسرًا حقيقيًا للوصاية، وخارطة عربية–إسلامية مختلفة تعكس مصالح الداخل لا الخارج.

خاتمة

نحن اليوم في مرحلة انتقالية: سايكس–بيكو لم يعد حيًا، لكنه لم يُدفن بعد.
الحدود التي رُسمت قبل قرن تفقد معناها يومًا بعد يوم، لكن غياب المشروع البديل يجعلها قائمة شكليًا. المرحلة القادمة هي صراع على من يملك حق إعادة ترسيم المعنى السياسي للمنطقة: القوى الخارجية التي صنعت الخرائط قديمًا، أم شعوب المنطقة التي دفعت ثمنها طوال قرن كامل.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.