منذ توقيع اتفاقية سايكس–بيكو (1916)، لم تعد الحدود مجرد خطوط على الخرائط، بل أداة استراتيجية لإعادة تشكيل المجتمعات والسيطرة على شعوب المنطقة. هذه الحدود لم تحدد فقط الجغرافيا السياسية، بل ساهمت في بناء الدولة الحديثة كآلة لإنتاج الولاء وإعادة هندسة وعي المواطنين، بعيدًا عن أي شعور جماعي متجاوز للحدود.
السلطة ورسم الوعي: الدولة كأداة للسيطرة
الأنظمة التي نشأت بعد سايكس–بيكو لم تكن موجهة لخدمة الشعب أو حماية مصالحه، بل لتثبيت السلطة والنخب الحاكمة. ومن هنا بدأت الدولة في بناء ما يمكن تسميته وعيًا صناعيًا:
- إنتاج السرديات الرسمية: الإعلام، التعليم والخطاب السياسي صُمّموا لتكريس الولاء للدولة والنخب الحاكمة، وليس للأمة أو الهوية الثقافية المتجاوزة للحدود.
- استغلال الدين والثقافة: الرموز الدينية والثقافية أُعيد توظيفها لتثبيت النظام، ومنع أي تفكير نقدي أو رغبة في الانتماء لمشروع شعبي إقليمي.
- فصل الشعب عن الوعي الجمعي: الحدود والهوية الوطنية المفروضة رسمت إطارًا ذهنياً يعزل المواطنين عن فهمهم كجزء من مجتمعات إقليمية أكبر، ويقطع أي رابط طبيعي مع شعوب الجوار.
رسم مفهوم الوطنية والولاء
الدولة لم تكتف بإنتاج هوية داخلية، بل أعادت تعريف مفهوم الوطنية بحيث يصبح الولاء للنظام أولوية قصوى:
- الولاء كشرط للبقاء: المواطن يُقاس ولاؤه عبر الطاعة للنظام والالتزام بقواعده، وليس عبر الانتماء لمجتمع أو ثقافة واسعة.
- إعادة هندسة الانتماء الجماعي: الدولة تعمل على فصل الشعب عن شبكاته التقليدية، بما في ذلك القبائل والجماعات العرقية، وتحويل الولاء إلى رابطة سياسية مع النظام فقط.
- التطبيع الداخلي للسيطرة: الإعلام والتعليم يشكلان أداة يومية لتأكيد أن الوطنية الحقيقية هي طاعة الدولة، بينما أي شعور بالانتماء الإقليمي يُعتبر تهديدًا للنظام.
المجتمع الداخلي قبل وبعد الحدود
ما قبل سايكس–بيكو، كانت المجتمعات المحلية تتمتع بحرية أكبر في إدارة شؤونها وفق تقاليدها وهويتها. لكن الحدود الجديدة قلبت هذا الواقع:
- تفكيك الشبكات التقليدية: القبائل والجماعات العرقية والدينية تم تقسيمها، مما أضعف الترابط الاجتماعي المحلي وأزال قوة المجتمعات الأصلية.
- فرض الولاء للنظام: المواطن أصبح مرتبطًا بالسلطة المركزية أكثر من ارتباطه بمجتمعه التقليدي أو بجواره الإقليمي.
- اقتصاديات السيطرة: الموارد، الأسواق، والتعليم صُمّموا لإعادة إنتاج النظام وليس لخدمة المجتمع.
السلطة كحلقة وصل بين الداخل والخارج
الدولة المولودة من اتفاق خارجي أصبحت وسيطًا بين القوى العالمية والمجتمع المحلي:
- إعادة إنتاج القوالب السياسية: السلطة تتحكم في المؤسسات الاقتصادية، الإعلامية والتعليمية، لتكرس نموذج حكم يخدم مصالحها ومصالح القوى الخارجية.
- التلاعب بالوعي الجمعي: من خلال الإعلام الموجه، التعليم الرسمي، والثقافة العامة، صُنعت هوية داخلية تعزل المواطن عن شعوب الجوار وتحافظ على هيمنة النظام.
- تقييد المشاركة المجتمعية: أي تحول اجتماعي أو اقتصادي يُدار بطريقة مركزية تضمن استمرار هيمنة الدولة على القرار، وتمنع المجتمعات من التواصل والتنسيق مع محيطها الإقليمي.
المجتمع الداخلي في مواجهة الواقع الجديد
الوعي الجمعي للمواطن بات خاضعًا للسيطرة، حيث الدولة تعيد إنتاج المجتمع وفق احتياجاتها:
- فصل المواطن عن مشهد أوسع: أي شعور بالانتماء الإقليمي أو القومي الكبير يتم إضعافه وتوجيهه نحو الولاء للنظام المحلي فقط.
- إعادة إنتاج الولاء القسري: المواطن يتعلم أن مصلحته الشخصية مرتبطة بإظهار الطاعة، وليس بالوعي أو المشاركة في مشروع شعبي أوسع.
- أدوات البقاء للنظام: القمع، الإعلام الموجه، الاقتصاد المركز، والثقافة السياسية المصممة كلها لضمان استمرار السلطة والسيطرة على كل جوانب حياة المجتمع.
خلاصة: مرحلة ما بعد سايكس–بيكو
ما بعد سايكس–بيكو لا يعني فقط مرونة الحدود أو انهيارها الجزئي، بل يشير إلى واقع داخلي حيث السلطة تفرض نفسها على وعي المجتمع، وتعيد إنتاج الولاء الوطني بعيدًا عن أي شعور جماعي أوسع مع دول الجوار. أي مشروع بديل حقيقي يحتاج أولًا إلى مواجهة هذه البنية الداخلية، واستعادة القدرة على صياغة هوية وطنية حقيقية تتجاوز القيود المفروضة تاريخيًا.