
الشرع فوق السلطان
أفتى العز بن عبدالسلام بأن المماليك – الذين كانوا عبيدًا بالأصل – لا يحق لهم التصرف في أموال الأمة أو حكمها ما لم يتحرروا شرعًا. بهذا الموقف قلب المعادلة: السلطان الذي يظن نفسه مالكًا للرقاب، تحوّل في لحظة إلى مملوك تُباع شرعيته وتُشترى. هذه الفتوى لم تكن فقهًا جامدًا، بل إعلانًا صارخًا أن الشرعية لا تُكتسب بالقوة، بل بالقانون الإلهي وإرادة الجماعة.
السيادة للأمة لا للحاكم
حين باع العز المماليك بيعًا صوريًا ثم حرّرهم بمال الأمة، كان يُرسل رسالة مزدوجة: الأولى أن الأمة صاحبة الحق في شرعية السلطان، والثانية أن أي حكم بلا عقد رضائي مع الأمة يظل باطلاً. لقد تجلى هنا "الجبر السياسي" في أبهى صوره: إلزام الحاكم بالعودة إلى موقعه الطبيعي كخادم للناس، لا سيدًا عليهم.
كسر هيبة السلطة المستبدة
لم يكن موقف العز مجرد حادثة فقهية، بل ثورة فكرية على مفهوم الطاعة العمياء. لقد أهان سلطان عصره أمام العامة، لا من باب التشفي، بل ليؤكد أن هيبة الشرع فوق هيبة السلطان. هذا الموقف حوّل العلماء من "وعّاظ القصور" إلى سلطة رقابية على الحكام، وكشف أن الاستبداد ليس قدرًا، بل صناعة بشرية يمكن كسرها.
دروس للمستقبل
في زمن تُصنع فيه شرعية الحكام بانتخابات شكلية أو وصاية خارجية، يعيدنا العز بن عبدالسلام إلى سؤال جوهري: من يملك الشرعية الحقيقية؟ الأمة أم السلطان؟ القانون أم القوة؟ لقد برهن أن وظيفة العالم ليست فقط التعليم، بل إعادة تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ووضع السلطة تحت المساءلة المستمرة.
✦ إن لقب "بائع الملوك" لم يكن سبة في التاريخ، بل كان علامة مضيئة على أن السيادة للشعب والشرع معًا، لا للسلطان وحده.
خاتمة: حين يُباع السلطان في سوق الأمة
لم يكن العز بن عبدالسلام مجرد فقيه شجاع، بل كان ثورةً تمشي على قدمين. لقد جرّد السلطان من قدسيته، وأسقط عن الحاكم هالة الوصاية، وأثبت أن الدولة ليست مزرعة شخصية بل عقدًا اجتماعيًا محكومًا بالشرع وإرادة الناس. إن مشهده وهو يبيع الملوك في سوق الأمة لم يكن واقعة فقهية عابرة، بل لحظة رمزية كبرى تقول للأجيال: الحاكم عبدٌ للقانون، فإن تكبر استُعيد إلى مكانه الطبيعي، ولو بالبيع على أعين الناس.
وهنا تتجلى عظمة الدرس: أن السلطة إذا انفصلت عن الشرعية صارت سلعة، وأن الأمة – مهما ضعفت – قادرة على إعادة تشكيل موازين القوة متى وجدت من العلماء من يملك الجرأة على الصدع بالحق.