الكنيسة الخمسينية: من الروحانية إلى النفوذ السياسي

ليست كل الحركات الدينية تبقى في حدود الوعظ والطقوس، فبعضها يتحول إلى قوة اجتماعية وسياسية مؤثرة. من أبرز الأمثلة المعاصرة الكنيسة الخمسينية، التي انطلقت من تجربة روحية في مطلع القرن العشرين، لتصبح اليوم حركة دينية عالمية لها امتداد سياسي غير مباشر، خاصة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا. فهل هي مجرد تيار ديني، أم أنها أداة نفوذ عابر للحدود؟

البدايات: الروحانية والعودة إلى "العنصرة"

ظهرت الخمسينية عام 1906 في لوس أنجلوس مع ما عُرف بـ"نهضة شارع أزوسا".
اعتمدت على فكرة عودة التجربة الأولى للمسيحيين في "عيد الخمسين"، حيث نزل الروح القدس على التلاميذ وجعلهم يتكلمون بألسنة مختلفة.
تركيزها كان على:

  • العبادة العاطفية الحماسية.
  • المعجزات والشفاء بالإيمان.
  • التجربة الفردية المباشرة مع الروح القدس.

في هذه المرحلة كانت الحركة دينية صِرف، موجهة للفقراء والمهمشين الباحثين عن معنى وهوية خارج الكنائس الرسمية.

من الدين إلى السياسة: كيف حدث التحول؟

مع توسعها وانتشارها بين ملايين الأتباع، بدأت الخمسينية تتحول إلى قوة اجتماعية لها وزن سياسي.

  • في البرازيل:
    أصبح للخمسينيين كتلة انتخابية هائلة، واستند الرئيس السابق جايير بولسونارو إلى دعمهم للوصول إلى الحكم، حيث وظّف خطابًا دينيًا محافظًا يتقاطع مع رؤيتهم.

  • في نيجيريا:
    تحولت بعض الكنائس الخمسينية الكبرى إلى إمبراطوريات اقتصادية تملك محطات تلفزيونية، جامعات، وشبكات إعلامية، مما جعلها لاعبًا سياسيًا مؤثرًا يتقاطع مع مصالح الدولة.

  • في الولايات المتحدة:
    ارتبطت بعض الحركات الخمسينية باليمين المسيحي المحافظ، فباتت جزءًا من قاعدة انتخابية صلبة تضغط على السياسة الداخلية والخارجية.

التأثير الناعم: حين يصبح الدين أداة سياسية

الحركات الخمسينية لا تقدم نفسها كأحزاب سياسية، لكنها تمارس دورًا سياسيًا عبر:

  • التوجيه الانتخابي: دعم مرشحين بعينهم أو الضغط على السياسيين.
  • التأثير الثقافي: نشر قيم اجتماعية محافظة تؤثر في التشريعات.
  • العلاقات الخارجية: استثمار انتشارها كأداة نفوذ للولايات المتحدة في العالم الثالث.

بهذا المعنى، تتحول الخمسينية إلى قوة ناعمة، تستخدم الدين كجسر للتأثير السياسي والاجتماعي.

المقارنة: الخمسينية والإنجيلية البروتستانتية

لفهم خصوصية الخمسينية، لا بد من مقارنتها بالحركات الإنجيلية البروتستانتية التقليدية:

المركزية اللاهوتية:
  • الإنجيلية البروتستانتية تركّز على "الكتاب المقدس" و"الخلاص بالإيمان".
  • الخمسينية تركّز على التجربة الروحية المباشرة (المعجزات، التكلم بالألسنة، الشفاء).
الطبقة الاجتماعية:
  • البروتستانتية الإنجيلية جذبت تاريخيًا الطبقات الوسطى والطبقات المتعلمة.
  • الخمسينية جذبت المهمشين والفقراء، ووجدت قوة في الأحياء الشعبية والمجتمعات الطرفية.
البعد السياسي:
  • الإنجيلية البروتستانتية ارتبطت باليمين المسيحي في أمريكا، خصوصًا قضايا الأخلاق والأسرة والسياسة الخارجية المؤيدة لإسرائيل.
  • الخمسينية توسعت عالميًا، وأصبح لها تأثير سياسي مباشر في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، حيث تشكل كتلًا انتخابية ضخمة.
الانتشار الجغرافي:
  • الإنجيلية البروتستانتية ظلت قوة أساسية في أمريكا الشمالية وأوروبا.
  • الخمسينية أصبحت قوة عالمية متنامية، خصوصًا في الجنوب العالمي (أفريقيا – أمريكا اللاتينية – آسيا).

مفارقة الروحانية والسياسة

التيار الذي بدأ كحركة روحية تحررية للفقراء والمهمشين، يجد نفسه اليوم أحيانًا في قلب الصراعات السياسية والاقتصادية.
هنا تظهر المفارقة: هل ما زالت الخمسينية وفية لروح "العنصرة" الأولى، أم أنها أصبحت أداة هيمنة سياسية بغطاء ديني؟

البعد الجدلي: الدين كأداة جيوسياسية

اللافت أن انتشار الكنائس الخمسينية لا يتم بمعزل عن المصالح الدولية، بل يُستخدم أحيانًا كأداة لإعادة تشكيل المجتمعات.

  • في أمريكا اللاتينية، شكّل النفوذ الخمسيني حاجزًا أمام صعود الحركات اليسارية والراديكالية، ما يخدم استراتيجيات واشنطن.
  • في أفريقيا، منح هذا النفوذ غطاءً ثقافيًا ودينيًا للسياسات الغربية، عبر تكوين "طبقة وسطى مسيحية" تتبنى النموذج النيوليبرالي اقتصاديًا.
  • في الداخل الأمريكي، يتم توظيف الخمسينيين كقوة انتخابية تعزز استمرار نفوذ اليمين المسيحي المتحالف مع المؤسسات الاقتصادية والعسكرية.

هكذا يتضح أن الكنيسة الخمسينية ليست مجرد ظاهرة إيمانية، بل جزء من شبكة معقدة تُعيد صياغة السياسة والاجتماع تحت لافتة "الروحانية".

الخاتمة: من الطقوس إلى الجيوش الناعمة

تجربة الكنيسة الخمسينية تكشف بوضوح كيف يمكن لحركة روحية أن تتحول إلى قوة سياسية عابرة للحدود. فحين يُعاد توظيف الدين في المجال العام، يتحول إلى أداة لإنتاج الولاءات، وضبط المجتمعات، وتوجيه السياسات. بهذا المعنى، ليست الخمسينية مجرد تيار عقائدي، بل أشبه بـ"جيش ناعم" يعمل على مستويات ثلاثة:

  1. اجتماعيًا: بملء فراغ الدولة في الأحياء الفقيرة عبر الدعم الروحي والمعنوي.
  2. سياسيًا: بتشكيل كتل انتخابية ضاغطة تغير موازين القوى.
  3. جيوسياسيًا: بتوفير أداة نفوذ غير مباشرة للولايات المتحدة وحلفائها في الجنوب العالمي.

النتيجة أن حركة وُلدت في الشوارع الهامشية لوس أنجلوس تحت شعار "عودة الروح القدس"، أصبحت اليوم لاعبًا دوليًا يوازن بين خطاب السماء ومتطلبات الأرض. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: الدين الذي قُدّم كخلاص روحي فردي، صار يُستخدم كوسيلة لإعادة تشكيل خرائط السلطة في العالم.

+
أحدث أقدم

ويجيد بعد المقال


تنويه: هذا المقال (أو المحتوى) يقدم تحليلاً إعلامياً موضوعياً، ويخلو تماماً من أي تحريض أو دعوة للعنف، ويعكس رؤية نقدية متوازنة للأحداث، مع الالتزام التام بالأطر القانونية والمعايير المهنية.