
منذ اندلاع النزاع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أصبح السودان ساحة لصراع داخلي معقد أثر بشكل مباشر على استقراره وأمنه. ورغم تورط حميدتي في العديد من الانتهاكات والجرائم، لا يزال يحظى بدعم من بعض القوى الإقليمية والدولية. السؤال الأساسي هنا: لماذا يُستمر دعم شخص يساهم مباشرة في زعزعة استقرار البلاد؟ ولماذا تتجاهل القوى العالمية الانتهاكات التي يرتكبها؟
1. النفوذ العسكري والاقتصادي لقوات الدعم السريع
قوات الدعم السريع ليست مجرد قوة عسكرية تقليدية، بل مؤسسة شبه اقتصادية تتحكم في مناطق استراتيجية وموارد حيوية، خصوصًا في دارفور ومعابر الذهب والنفط والمعادن الأخرى. هذا النفوذ يمنح حميدتي قوة مستقلة تمكنه من ممارسة الضغط السياسي وفرض إرادته على الأطراف الأخرى، بما في ذلك الجيش السوداني والحكومة المدنية السابقة.
على سبيل المثال، سيطرته على معابر الذهب في دارفور تمنحه القدرة على تمويل قواته دون الاعتماد على ميزانية الدولة، وهو ما يخلق واقعًا موازٍ يمكّنه من التفاوض من موقع قوة، حتى أمام الدول الإقليمية نفسها. هذا النفوذ العسكري والاقتصادي يجعل أي محاولة لفرض سلطة مركزية على السودان تحديًا كبيرًا، ويزيد من قدرته على البقاء لاعبًا رئيسيًا في المشهد السياسي.
2. التحالفات الإقليمية والدولية
حميدتي حافظ على علاقات قوية مع بعض الدول الإقليمية مثل الإمارات والسعودية، من خلال مشاركته في حروب إقليمية وتجارتها في الذهب والمعادن. هذه التحالفات توفر له حماية سياسية ودعمًا ماليًا وعسكريًا، وتجعله أداة يمكن استثمارها لتحقيق مصالح إقليمية محددة.
على سبيل المثال، تقارير متعددة تشير إلى مشاركته في عمليات إقليمية لدعم حلفاء معينين، بالإضافة إلى عقود تجارية مباشرة مع شركات مرتبطة بالدولة، ما يضمن له موارد مالية ضخمة. هذه العلاقات تمنح حميدتي شرعية جزئية على الصعيد الدولي، رغم سجله في الانتهاكات، وتزيد من تعقيد أي مسعى لإخضاعه للمساءلة الداخلية.
3. الاستفادة من الفوضى لتحقيق مصالح خاصة
الفوضى الجزئية في السودان تمثل فرصة للقوى الإقليمية والدولية لتحقيق مصالح استراتيجية دون مواجهة حكومة مركزية قوية. الدعم الخارجي لحميدتي يضمن استمرار هذه الفوضى، مع إمكانية التحكم في نتائجها لصالح تلك القوى، سواء في الموارد أو التحالفات الإقليمية.
الواقع السوداني يوضح أن المناطق التي تشهد صراعات محلية أو انقسامات قبلية غالبًا ما تصبح مسرحًا لعمليات تهريب الذهب والأسلحة، وهو ما يسمح بحفظ نفوذ القوى الداعمة دون الحاجة للاستثمار المباشر في استقرار السودان. بالتالي، حميدتي لا يمثل مجرد لاعب محلي، بل أداة لتحقيق أهداف استراتيجية أبعد من حدود السودان.
4. تأثير دعم حميدتي على السياسة السودانية
القوى الخارجية تستخدم دعم حميدتي كأداة للتأثير على القرار السياسي في السودان، عبر تقديم الدعم المالي والعسكري والشرعية الدولية الجزئية، مما يعزز موقفه داخليًا ويجعل أي تسوية سياسية غير مواتية لتلك القوى صعبة التحقيق.
على سبيل المثال، أي محاولة لإعادة توزيع السلطة بين الجيش والمكونات المدنية أو لإحداث إصلاح سياسي شامل تواجه مقاومة ضمنية من القوى الداعمة، التي تعتبر استمرار حميدتي في المشهد السياسي أداة ضغط للحفاظ على نفوذها.
5. تجاهل الانتهاكات والجرائم المرتكبة
رغم تورط قوات الدعم السريع في أعمال عنف على أساس عرقي والقتل والاعتقالات التعسفية، تتجاهل بعض القوى الإقليمية والدولية هذه الانتهاكات، لأن مصالحها الاستراتيجية تفوق أي اعتبارات حقوقية أو أخلاقية.
هذا التجاهل ليس مجرد غفلة، بل جزء من استراتيجية متعمدة لضمان استمرار نفوذ حميدتي. الفوضى التي يخلقها تصبح وقودًا للسيطرة الإقليمية والدولية، بينما الحقوق الإنسانية للشعب السوداني تُهمل، مما يعكس ازدواجية معايير القوى الكبرى في المنطقة.
6. لماذا تدعم القوى الغربية حميدتي رغم زعزعة الاستقرار؟
القوى الغربية لا تسعى لاستقرار السودان بمعناه الوطني أو الديمقراطي، بل تريد نوعًا من الاستقرار الزائف الموجه الذي يخدم مصالحها الاستراتيجية. دعم حميدتي يوفر لهم:
-
استمرار النفوذ العسكري والاقتصادي: مع ضمان الوصول إلى الموارد الحيوية دون مواجهة حكومة مستقلة.
-
فوضى جزئية قابلة للتحكم: تسمح بفرض حلول سياسية خارجية وفق مصالحهم، مع الحفاظ على سلطة محددة قابلة للتوجيه.
-
منع ظهور سلطة مدنية قوية: أي حكومة مدنية مستقلة قد تعيد توزيع الموارد لصالح الشعب، وتقوض النفوذ الغربي.
-
تطويع السودان سياسيًا واقتصاديًا: كما حدث مع مصر ودول الخليج، يتم إدخاله ضمن “حظيرة الطاعة والوظيفة”.
-
منع ظهور تحالفات إقليمية جديدة: استقرار السودان المستقل قد يؤدي إلى تحالفات جديدة مع دول عربية أو إفريقية أو إقليمية تتعارض مع المصالح الغربية، ما يحاول دعم حميدتي تفاديه.
الخلاصة
دعم حميدتي هو أداة لضمان أن يبقى السودان ضمن دائرة النفوذ الغربي، محتفظًا بزيف الاستقرار وقابلًا للتطويع، وليس دولة حقيقية مستقلة يمكنها إعادة رسم التحالفات الإقليمية لصالح مصالح شعبها.
حميدتي ليس مجرد شخصية محلية، بل نتاج مزيج من النفوذ العسكري، الاقتصادي، والتحالفات الإقليمية والدولية. قوته تعكس قدرة القوى الخارجية على فرض نفوذها من وراء الفوضى، وجعل السودان رهينة مصالح استراتيجية لا تتوافق بالضرورة مع تطلعات شعبه. أي تحليل واقعي للمشهد السوداني اليوم يجب أن يبدأ من فهم هذا التوازن المربك بين الفوضى المحلية والدعم الخارجي، وفهم أن “الاستقرار” بالنسبة للقوى الغربية ليس لخدمة الشعب السوداني، بل لضمان مصالحها وأدوات السيطرة في المنطقة.